الكلام عن هادم اللذات كثير، ويشعر النفس بأحاسيس مختلفة، منها ما هو سلبي، وكثير ما يكون مفيدًا وإيجابيًا، وإلا لما أوصانا المصطفى صلى الله عليه وسلم بالإكثار من ذكر الموت؛ فبذكره ترق القلوب، ويزداد الخوف من الكبير المتعال، وتعف النفس عن المحرمات، وتترفع الجوارح عن الشهوات والموبقات. مع أن هذا لو قورن ببعض من الخوف والحزن عند ذكره، لكانت الفوائد أكبر بكثير من نسيانه وإهماله.
كل من يدقق في الموت ويتابع الجنازات يشعر بشعور غريب وعجيب؛ كيف لإنسان كان يقوم ويمشي، يجري ويلهو، فجأة يصبح صريعًا لا يملك حتى تحريك جفنيه، لا يستجيب لمن يتكلم ولا يسمع من يتمتم، أصبح معزولًا عن الحياة، بات في عالم آخر، هو العالم الحقيقي وهو الجزء الحاسم لتحديد مصيره: إما في نعيم ورخاء، أو في جحيم وشقاء. لم تكن حياته هباءً منثورًا، كانت امتحانًا بعدد سنين عمره، كل يوم يكتب في ورقته ويجاوب على أسئلته، حتى تأتي اللحظة التي تُسحب منه الورقة فجأة!! ليجد نفسه أمام تصحيح لهذا الامتحان، تصحيح ليس فيه مجاملة من الأستاذ الفلاني أو الدكتور العلاني، تصحيح ليس فيه احتمال خطأ ولو بنسبة واحد في المائة، تصحيح دقيق من رب السماوات ينتج عنه أصعب وأهم نتيجة، وهي الخلود!! إما في الجنة وإما في النار.
عندما تتناقش مع العلمانيين المتنورين لا أجد منهم إجابة علمية (وفق قناعتهم عن الموت). لو أدخلني في الطب والأسباب العلمية سيفتح على نفسه أبوابًا لن يستطيع أن يغلقها؛ إذا كان يموت المريض بالكبد والسرطان والقلب بسبب أمراضهم، فلماذا يموت الشاب ذو العشرين الذي يتمتع بصحة وافرة ولياقة ممتازة؟ إذا مات العليل فكيف يموت الصحيح؟ هنا يقف المتنور يتهته بأي كلام مثل: سكتة قلبية، مكملات غذائية، توابع كورونا (أي كلام)، وهو يعرف قبل أي أحد أن هذا كلام خاطئ، وأن الموت من الأشياء الأساسية التي يملك المولى عز وجل القرار الأول والأخير لها، وبخرق لكل العادات والنواميس العلمية والكونية.
ظل الأمير النائم في غيبوبة فاقد الوعي عشرات السنين وكل الأجهزة متوقفة، والطب لا يملك تفسيرًا لهذا ولا يعرف هل سيعيش أم يموت (بالمناسبة أنا طبيب). ولكن في لحظة معينة جمعت بين الكاف والنون، كان أمر المولى عز وجل فانتهى عمره. لم ينتهِ بسبب نزيف في المخ أو فشل في القلب، ولكن لأن الأمر جاء من السماء، فما كان لزامًا إلا التنفيذ.
يعيش مريض السكر والضغط والجلطة والسرطان عشرات السنين، والكثير من الأطباء يؤكدون أنه لن يستمر طويلًا، ثم يموت آخر بسكتة قلبية أو انفجار وريدي وهو نائم على فراشه. تصدم السيارة شخصين نفس الصدمة وبنفس القوة، يموت أحدهما بينما ينجو الآخر. حكاية معقدة، لو حاولت أن تفهمها لن تستطيع، ولو جئت بكل علماء الأرض لن يفلحوا، لأن مفاتيحها حصرًا عند خالق الكون ومدبره. لماذا لا يعترف العلمانيون بفشلهم في فهم الموت وتفسير فلسفته؟ لماذا لا يعلنون عجزهم أمام علم العلي القدير؟ الموت هو الحقيقة الوحيدة في الحياة التي لن يفر منها أحد. ربما يعيش أحدهم عازبًا ولا يتزوج، أو ينجب، أو يتعلم، أو يسافر، أو ينجح؛ أشياء مختلفة بين البشر لا يشترط أن يمروا بها، إلا الموت لن ينجو منه أحد.ستذوقه كل نفس، ليعلم المتجبر والمتعجرف أن هناك لحظة فارقة في انتظاره، لحظة ستنهي على كل آماله وأحلامه، لحظة ستؤول به إلى مصير أبدي وعيش سرمدي. تلك اللحظة هي الموت وغيابه عن الدنيا. سيترك ملكه وخدمه وحشمه، سيغادر القصور والضيعات، سيتوقف هذا اللسان الذي طالما تحدى الله وشكك في قدرته وعلمه وسخر منه. سيقف المصلح والفاجر أمام خالقه في مشهد مهيب. سيكون الفيصل في تلك الوقفة وذلك الحساب لمعايير أخرى غير التي نسمعها في الدنيا: العمل الصالح فقط، توحيد المولى عز وجل وإفراده بالعبودية.
لن نسمع عن الحرية أو الديمقراطية أو الإنسانية التي طالما صدعوا رؤوسنا بها، تلك مصطلحات لن تكون في المشهد الأخير. سيكون جواز سفرك وعبورك الصراط هو توحيدك وعبادتك لله، تلك هي كلمة المرور التي سنتكلم بعدها عما قدمت أو أخرت.
أشفق كثيرًا على الملحدين الذين ينكرون الحساب والبعث، أندهش وأقف حائرًا: كيف لشخص متعلم ومثقف يغيب عن ذهنه فكرة دفع الثمن ، إذا دخلت السنة الأولى في الكلية فلابد لك من امتحان آخر العام ونتيجة لهذا الامتحان. في قاموس الملحدين لا يوجد امتحانات ولا نتيجة. لو دخل اثنان الكلية فذاكر أحدهما وتعب وجدّ، واستهتر الثاني وتكاسل وتقاعد، فإن النتيجة واحدة لأنه لا يوجد أصلًا امتحان أو نتيجة. وتلك هي المعضلة التي طالبت بالكشف فيها عن القوى العقلية للملحدين.
لو طبقنا نظرية الملحد، فهذا الزوج الذي طالما آذى زوجته وضربها وظلمها سيمر دون عقاب، وتلك الجارة التي طالما ضايقت جارتها وأحزنتها ستحيا هانئة مطمئنة، وسيعيش العم الذي أكل ميراث أولاد أخيه رغدًا سعيدًا، وتعيش تلك الأخت التي طالما افترت على زوجة أخيها وتسببت في طلاقها دون حساب أو عقاب، ذلك في عرف الملحد. هذا التصور هو وجهة نظر من أنكر أن للكون ربًا يملكه ويدبره. بئس تلك الحياة، وبئس من فيها، التي يعيث فيها المفسد ولا يجد من يردعه، ويتجبر فيها الظالم ولا يدفع فاتورة تجبره. أما في فلسفة المؤمن فهناك رب لن يترك قيد أنملة إلا وأرجع الحقوق إلى أصحابها، لدرجة أنه يأخذ حق الشاة الجلحاء من القرناء يوم القيامة، ويجعل للجلحاء قرونًا لتأخذ حقها من تلك التي أصابتها بقرونها، ويقول لهما: كونا هباءً منثورًا. أرأيت تمام العدل والقسط؟ كل سيأخذ حقه، ولينم كل واحد ظُلم مطمئنًا قرير العين، فهناك من لا ينام ويعرف مظلوميته وشكواه.
ليرتح كل مكلوم، لأن في فلسفة المؤمن للموت، هو مرحلة أخيرة للوقوف أمام الجبار للحساب، هو مرحلة سحب ورقة الامتحان كي يبدأ التصحيح. لم نخلق في الدنيا هباءً ولكن كي نمتحن ونختبر ونحاسب بعد الموت.
فلسفة المؤمن تؤكد أن الموت هو التمهيد الحقيقي للحياة، حياة دائمة خالدة، أما عند الملحدين المنكرين فإن فلسفة الحياة نفسها تنتهي بالموت المجرّد الذي ليس بعده شيء، حيث إنه لا يوجد إله للكون أصلًا!! لتنتصر فلسفة المؤمنين ويعلم الجميع أن الموت سينال الجميع، ليقفوا أمام الحي الذي لا يموت، يدير المشهد الأخير كما أدار وحكم المشهد الأول.
كل باكٍ سيُبكى، وكل ناعٍ سيُنعى، وكل مذخور سيفنى، وكل مذكور سيُنسى، ليس غير الله يبقى، من علا فالله أعلى.