كتب:هدى شهاب
دور” الصدفة” في صنع التاريخ .. أحداث غيرت وجه العالم
مصادفة أم قدر …”قراءة تاريخية للصدفة”
هى نتاج لحركة قانون غير مرئي، تأتي بلا ترتيب وبلا موعد ولكن عند تحليل الحدث بدقة قد يتساءل البعض ، هل هي صدفة بالفعل؟؟ أم أنها أمر مرتب و منظم بقوانين وقواعد لم يتم إدراكها بشكل صحيح، إن الصُّدفة تحضر في حياتنا بمفاعيل قد يكون بعضها ثانوياً لا نلحظ تأثيرها و لكن هناك صدف أخرى حدثت في الماضي غيرت مجرى التاريخ سواء في الحرب أو العلوم و حتى الفنون، فالصدفة معيار أساسي ساهم في صنع التاريخ وتغيير مساره في كثير من الأحيان لذا نجد الصدفة دائما ما لعبت دوراً في مصائر شعوب و قلبت مستقبل بلاداً رأساً على عقب..
قال الفيلسوف الألماني “جوتفريد لايبنتس”: “غالبًا ما تُولد الأشياء العظيمة من الأسباب الصغيرة”، وأيضاً قال السياسي و الروائي الإغريقي”سوفوكليس”:”الحرب تنال من الخبيث دائماً بالصدفة “،مؤكدين أن الصدفة في كثير من الأحيان غيرتا مجرى التاريخ وساهمت بشكل أساسي في صناعته، وكتابته.
ربما لا يقتنع البعض بوجهات النظر تلك، إلا أن بعض المؤرخين حسموا هذا الخلاف بعدد من المحاضرات و الكتب التي فندت الأحداث و الوقائع التاريخية التي صنعتها الصدفة، ففي كتاب”صدف غيرت العالم” للكاتب المصري “ابراهيم على خميس” ألمح الكاتب إلى عدد من الصدف التي غيرت وجه العالم كتلك المرتبطة بتاريخ الحروب قائلا:”أن الحرب تُقدم أمثلة مفيدة لفهم دور الصدفة في التاريخ، ففيها يظهر الحضور القوي للصدفة أكثر مما يحضر في الحياة المدنية”، وفي الكتاب العالمي “الصدفة و الغباء في تغيير مجرى العالم” قدم الكاتب “اريك دورتشميد” طرحاً لفكرة الصدف في تغيير وجه التاريخ، فتظهر أن الصدف قد لعبت دوراً حاسماً لا يقل بل يفوق دور الشجاعة و البطولة، مطلقا على الصدفة التي تُغير مسار الاحداث بين ليلة و ضحاها “العامل الحاسم” يقلب الأدوار رأساً على عقب فيتحول المُنتصر إلى مهزوم و السلم إلى حرب، كما قال ” قائد الجيش البروسي،كال فون كلوزويتنر” :”الصدفة و الشك من أهم و أكثر عناصر الحرب شيوعا”
و لأن الصُدف التي صنعت التاريخ تُعد بالمئات في أشكالها و حضورها في كلاً من ميادين الحروب إلى نظريات العلم وصولاً لساحات الآداب والفنون..ستستعرض لكم ” زهوة” خلال هذا الموضوع عدد من أهم الصدف التاريخية الغريبة و الطريفة التي غيرت مجرى التاريخ…
“معركة كارانسيبيس”
بدأت رحى الحرب تدور بين النمسا والدولة العثمانية عندما أراد السلطان “سليمان القانوني” غزو النمسا عام 1529،بهدف إحكام الإمبراطورية العثمانية سيطرتها على مملكة المجر التي كانت ضمن “ملكية عائلة هابسبورغ”، ولكن بعد 25 يوماً من المسيرة الطويلة والحصار هَزَمت الأمطار والثلوج الأوروبية الجيش العثماني وساءت أحوالهم الصحية على الحدود..حتى إنه تم إلقاء القبض على “الصدر الأعظم إبراهيم باشا”، ما جعل علامات النصر تتلاشى أمام الدولة العثمانية التي قررت في نهاية المطاف التراجع والتخلى عن طموحها في السيطرة لفترة من الوقت..
و لكن في عام 1788 قرر الملك النمساوي جوزيف الثاني إعلان الحرب على العثمانيين فأمر بتجهيز جيش قوامه 245 ألف جندي و نحو ألف مدفع.. وكان الجيش النمساوي يتكون من جنسياتٍ متعددة بلغاتٍ مختلفة، فكان التواصل فيما بينهم غير مكتمل.. قبل المعركة قررت مجموعة من كشافة الجيش النمساوي التقدم عبر نهر “تيمس” لإستطلاع تقدم الجيش العثماني الذي سلك طريقه في إتجاه النمساويين. .بعد مدة من العمل أحس جنود الكشافة بالعطش فوجدوا تَجمُع للغجر حيث يُباع ” الشنبص” وهو نوع من “الخمر الثقيل،” فجلسوا و شربوا حتي الثمالة… وعند غياب جنود الكشافة عن موعد عودتهم ذهبت مجموعة من مشاة النمساويين لمعرفة ما حدث لهم.. ولكنهم سرعان ما إنضموا لجنود الكشافة فشربوا حتى الثمالة هم أيضاً و كانوا في حالة سُكر و لإختلاف لغاتهم و عدم فهمهم لبعض البعض تشابكوا و في خضم الجدال أطلق أحدهم عيار ناري، فظن بعض جنود المشاة أنهم يتعرضون لهجوم عثماني!! و صاحوا “أتراك .أتراك”!!.. فاعتقدت فرقة الكشافة السكارى أن الأتراك جاؤوا من خلفهم ففروا إلي الكتائب المتقدمة من الجيش بهلع، فظنت هذه الكتائب المتقدمة بدورهم أن العثمانيين هجموا!! فبدأت كتائب المقدمة هذه في الهروب ناحية المعسكر الرئيسي.. و لأن الجيش النمساوي به يتحدثون الألمانية والصربية والكرواتية ولغات عديدة وكان كل منهم يصيح بلغة مختلفة ظن بعضهم إن بعض الهتافات تعني “الله أكبر ،الله أكبر”، فظن جنود المعسكر أن المسلمون يهجمون ففتحوا النيران ونشب القتال وبدأ الكل في قتل من بجواره وعمت الفوضي، وما لبث أن هُزم الجيش النمساوي نفسه بنفسه!!.. ثم بعد يومين،عندما وصل الجيش العثماني بقيادة “السلطان عبد الحميد الأول” و الصدر الأعظم “خوجة يوسف باشا” وجدوا المدينة خاوية و أن الجثث وصلت لـ 10.000 قتيل ،فأسروا 50.000 جندي.. فكانت الصدفة حاضرة و بقوة في معركة “كارانسيبيس”..
“تيمورلنك و نبوءته”
هو تيمور بن ترجاي، أحد أحفاد القائد المغولي “جنكيز خان” وُلد جنوب سمرقند، اعتبره المؤرخون أحد كِبار القادة العسكريين الذين ظهروا في التاريخ، بينما يراه البعض بأنه كان نقمة على العالم الإسلامي، حيث قام بمجازر وحشية يندى لها جبين الإنسانية رغم إدعائه الإسلام والتدين، بدأ “تيمورلنك” بوضع استيراتيجية تهدف إلى انشاء إمبراطورية مغولية كبرى على غرار جنكيز خان، سميت “الامبراطورية التيمورية”، ولم يتورع لتحقيق حلمة عن سفك الدماء، ومن أجل تحقيق ذلك امتد نشاطه من نهر الفولجا في روسيا حتى دمشق في الشام ومن أزمير في آسيا الصغرى حتى نهر الجانج في الهند. ولكن و من عجائب تيمورلنك إنه و بعد موته قرر فريق “روسى” في مقتبل أربعينيات القرن الماضي بفتح مقبرة تيمورلنك و لكنهم عندما فتحوا قبره وجدوا تهديد منقوش على القبر يُحذر كل من تُسول له نفسه بفتح القبر حيث كُتب داخل التابوت:”من فتح قبري فإنه سيطلق العنان لقوة غاشمة أكثر فظاعة منى تجتاح الأرض”، وبالصدفة البحتة حدث بعد فتح قبره بيومين فقط بداية الحرب العالمية الثانية، بعد أن أجتاح هتلر أرض الاتحاد السوفيتي لتشتعل بها حربا عالمية احتاجت الأرض كما تنبأ تيمورلنك فهل هى صدفة!!..و بعد فترة أمرَ “ستالين” القائد الروسي بإعادة غلق القبر و بعدها بعدة شهور إنتصر الجيش الأحمر و دخل العاصمة الألمانية برلين!!..
“مراهق و حرباً عالمية”
يذكر المؤرخون أن سبب اشتعال الحرب العالمية الأولى، جاء إثر اغتيال ولي عهد النمسا الأرشيدوق”فرنسوا فرديناند”، على يد المراهق “جرافيليو برنسيب” المنتمي لمنظمة اليد السوداء الصربية المعادية للتدخل النمساوي في شئون بلاده، ولكن الغريب أن عملية الإغتيال ساهمت فيها الصدفة بشكلٍ كبير، فبعد أن نجا الأرشيدوق من محاولة إغتيالٍ أولى بمحض الصدفة نتيجة تباطؤ الفاعل في فتح القنبلة وإلقائها في الوقت المناسب، يقرر الأمير في ذات اليوم أن يذهب لزيارة للمصابين الذين أصيبوا من حادث الإغتيال، إلا أن سائق سيارة الأرشيدوق ضَلَ طريقه للمشفى و دخل في طرقاً و أزقة فرعية، ليكتشف فجأة أنه قاد الأرشيدوق دون قصد إلى إحدى الحواري الضيقة التي كان لـ”الصدفة البحته” يجلس في إحدى مطاعمها “برنسيب” والذي نظر وإذا بالمفاجأة فـ”الأرشيدوق الناجي” و الذي لم يَمر على نجاته سوى ساعاتٍ قليلة يمر من أمامه، فأخرج سلاحه و أطلق على السيارة عدة رصاصات، حاول بعدها السائق تدارك الأمر ولكن إزداد الأمر إزداد تعقيداً، وهنا انتبه الأمير ليرى سلاح “برنسيب” مصوباً في وجهه تماماً وبعد إغتياله، أعلنت الإمبراطورية الهنجارية النمساوية الحرب على صربيا لتنضم لها ألمانيا في مواجهة روسيا التي هرولت لحماية صربيا، وهو ما أدى لاشتعال فتيل الحرب في أوروبا كلها بدخول عدة دول كالدولة العثمانية و فرنسا و إيطاليا و إمتدت بعدها إلى العالم بأسره، وخلال سنواتٍ أودت الحرب بحياة آلاف البشر بل الملايين و كل هذا بسبب حادثة اغتيال لعبت فيها الصدفة دوراً هاماً، مما يعني أن حدثاً صغيراً قد تسبب بوقوع فاجعة عظيمة في العالم. ربما لو لم ينجح اغتيال الأمير ما كان العالم سيشهد اندلاع الحرب العالمية الأولى.
“من الإفلاس إلى الثروة”
عماد الدولة أبو الحسن الديلمي صاحب بلاد فارس، أول من ملك الدولة البويهية التي كانت تحكم بلاد فارس، وكان أبوه صياداً وليست له معيشة إلا من صيد السمك، وكانوا ثلاثة إخوة وكان “عماد الدولة” سبباً لسعادتهم وانتشار صيتهم، ملك العراق والأهواز وفارس و أدار أمور الرعية بأحسن سياسة، وذكر المؤرخ بن العباس المأموني في تاريخه أن عماد الدولة اتفقت له أسباب عجيبة و صدف غريبة كانت سبباً لثبات ملكهُ، منها أنه لما ملك شيراز في أول الامر و بعدها أقام حصار لمدينتي أصفهان و فارس لإخراج الخليفة والوالي، فإجتمع أصحابه وطالبوه بالأموال قبل الحرب، ولكنه لم يملك من المال ما يرضيهم و مشكلتة تلك كادت أن تخلق له أزمة حقيقية، وهي نفاد الخزينة التي أعدها أو الإنسحاب من الحرب، وأشرف أمره على الخسارة و الهزيمة، فأغتم و حزن لذلك، فبينما هو يفكر مستلقياً على ظهره في مجلس قد خلا فيه لنفسه لتدبر أمره، فإذا بأفعى تُخرج رأسها من موضع في سقف الدار ودخلت موضعاً آخر منه، فخاف “عماد الدولة” أن تسقط عليه، فدعا بعض الرجال وأمرهم بإحضار سُلم ومتابعة الأفعى و الإمساك بها، فلما صعدوا وبحثوا عنها، وجدوا ذلك السقف يُفضي إلى غرفة بين سقفين، فأعلموه بذلك فأمرهم بفتح السقف، وعندما فتحه”عماد الدولة” وجد فيه صناديق من المال والمصاغات قُدرت “بخمسمائة ألف دينار” من العملة الذهبية “القاجارية”!!، فحمل المال بين يديه و سَر بها أشد السرور وأنفقه على رجاله، وثبت أمره واستقرت قواعده،فكانت هذه الأسباب من أقوى دلائل سعادته,و يذكر المؤرخون أن تلك النقود التي حصل عليها”عماد الدولة”بالصدفة كانت لأحد حكام “القاجاريين”قد أعدها ليوم بؤسه و فقره و لكنه مات دون أن يتمكن منها، فكانت من نصيب”عماد الدولة” وجيشه!!..
“كاسترو”رجل الصُدف
اشتهر الزعيم الكوبي السابق”فيدل كاسترو”،بكونه أسطورة في النجاة من محاولات اغتيال جميعها بصدفٍ غريبة تُثير الدهشة، فوفقا لمسئولين كوبيين وصل عدد محاولات الإغتي لـ 638 مرة!!,انبسطت على مدى نصف قرن حاول خلالها 10 رؤساء أمريكيين القضاء عليه خلالهم، إذ ارتفع عدد الناس الراغبين في قتل “كاسترو”بعد صعوده لسدة الحكم في كوبا عام 1959، لاسيما وأنه وبعد الإطاحة “بباتيستا” الموالي للولايات المتحدة الامريكية، وسيطرته الكاملة على الحكم في كوبا انتهج “كاسترو” الفكر الشيوعي فإحتضنه الإتحاد السوفياتي العدو اللدود للولايات المتحدة آنذاك، فكان من هنا لزاماً على الإستخبارات الامريكيةCIA قتل “كاسترو” و التخلص منه بعد أن فشلت كل محاولات استمالته، فأبدعت”CIA” في محاولات الإغتيال ومن أشهر هذه المحاولات الكثيرة التي نجا منها “كاسترو” بالصدفة، المحاولة الخادعة وهي شغف “كاسترو” الذي لا يَخفىَ على أحد لـ” السيجار الكوبي”، هذا الشغف لن تُفوتهُ أميركا لتتخلص من عدوها، فحينما مرض “كاسترو أُرسلت له الهدايا من كلّ حدبٍ وصوب ولكن لم تكن لتمرّ هدية واحدة دون تفتيش دقيق حيث تمَّ تصنيع سيجار شديد الانفجار من قِبل قسم الخدمات التقنية في CIA، وكانوا حريصين على أن يتمّ تصنيعها من نفس نوع السيجار الذي يفضله “كاسترو” ولكن كالعادة لم يكونوا محظوظين إذ كان “كاسترو” قد أقلع عن التدخين بعد تدهور صحته!!..
غرق التايتانك
أثارت التيتانيك سنة 1912 ذهول الجميع بجحمها الهائل و محركاتها العملاقة، فكانت الأسطورة التي لا تغرق حيث أشرف على بنائها خيرة المهندسين، ولكن خلال رحلتها الأولى ما بين بريطانيا و الولايات المتحدة الامريكية لعبت الصدفة او الصدف دوراً كبيراً في غرق التيتانيك، متسببة في واحدة من أسوأ الكوارث البحرية في التاريخ البشري، ومن أهم الصدف التي شكلت نهاية التيتانيك المأساوية تلك القصة، فقبل أن تُبحر التيتانيك بساعات من ميناء
“ساوثهامبتون” بإتجاه نيويورك قررت الشركة المشغلة لطاقم السفينة، إستبدال الضابط الثاني في السفينة “ديفيد بلير” بضابط ثاني أخر أكثر مهارة إسمه “تشارلزلايتولر” الذي ارتكب خطأ كارثيا ألقى بظلاله على مستقبل السفينة التي يستحيل أن تغرق، فالضابط الثاني “بلير” نسي أن يعطي لـ”لايتولر”، مفتاح الخزنة التي تحتوي على المنظار الخاص بالسفينة و لم يتحمل “لايتولر” عناء السؤال أو البحث عن المفتاح قبل بداية الرحلة لتنطلق التيتانيك على إثر هذا نحو “نيويورك” في ظروفٍ جوية سيئة، حُرم خلالها المراقبون على من المناظير، وعلى الرغم من التحديزات التي أرسلتها الباخرة “ميسابا” للتيتانيك تحذرها من مغبة الإبحار ليلاً بسبب ضعف الرؤية إلا إن مسئولين التيتانيك أصروا على الابحار لينتهي بها المطاف في قاع المحيط،و بعد غرقها قالت “فريد فليت” الشركة المُشغلة بأن الصدفة لعبت دوراً في غرق السفينة مؤكدةً أن البحارة كانوا سيشاهدوا حتماً “الجبل الجليدي” الذي إصطدمت به السفينة، لو كان المنظار موجوداً و لما كانت حدثت الكارثة!!.
بعد هذه القصص نتساءل كم من قصة؟ كم من اختراع؟ كم من مأساة ؟ حدثوا بالصدف.. وماذا لو أغمضت عينيك وتأملت ما حدث وماذا كان سيحدث إذا لم تتحقق تلك الصدف هل كان تغير وجه العالم ؟؟؟؟ نترك لكم الإجابة
كتبت/هدى شهاب
مواضيع أخرى للمجلة
. الذكرى السادسة لرحيل الكاتبةرضوىعاشور
أنا سلحفاه ………………بقلم سحر شندى
التنبيهات : هو أنت ممكن تحبنى ؟ : ،،،Zahuaa زهوة حكايات وخواطر