التعليم
أخر الأخبار

دروسٌ وعبرٌ من حادث تحويل القبلة في الصلاة

دروسٌ وعبرٌ من حادث تحويل القبلة في الصلاة

(سبعة من الدروس والعبر في ذكرى تحويل القبلة)

الحمد لله رب العالمين، أعدّ لمَنْ أطاعه جنات النعيم، وسعرّ لمَنْ عصاه نار الجحيم، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأصلي وأسلم على خاتم الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد (صلى الله عليه وسلم)، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فقد علمنا سابقًا أن من الأحداث العظيمة في تاريخ الدعوة الإسلامية؛ والذي تعارفت الأمة على الاحتفال به في شهر شعبان وبالتحديد في ليلة النصف منه؛ حادث تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة بيت الله الحرام.
وهذا الحدث مليء بالدروس والعبر المفيدة للفرد، وللمجتمع، والجماعة، والوطن، والأمة ككلٍ، ولذا ينبغي على الأمة الإسلامية بشيوخها رجالا ونساء، وبشبابها فتيانًا وفتياتٍ أن يقفوا أمامه طويلا، مستخلصين منه الدروس والعبر، جاعلين إياه نبراسًا في حياتهم كالتالي:

1. عظم مكانة النبي (صلى الله عليه وسلم) عند ربه، حيث استجاب الحق لرغبته في التوجه في الصلاة للبيت الحرام فوجهه إليه، قال تعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ}[البقرة:144]، وتأملوا في روعة التعبير القرآني ونظمه التي تدل على عظم قدر النبي (صلى الله عليه وسلم) وعلو مكانته، فالحق تبارك وتعالى يقول: {فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا} ترضاها أنت يا محمد، ولم يقلْ: أرضاها أنا ربُّ العزة تبارك وتعالى، ولذا تقول السبدة عائشة (رضي الله عنها): (وَاللهِ، مَا أَرَى رَبَّكَ إِلَّا يُسَارِعُ لَكَ فِي هَوَاكَ) (متفق عليه).

كما أعلمه سبحانه وتعالى بما سيردده اليهود من إشاعاتٍ وأراجيف محاربة للقبلة الجديدة، بهدف زعزعة المؤمنين في أمر صلاتهم إلى الكعبة، وتشكيكهم في صلاتهم إلى بيت المقدس، كما أنه (سبحانه وتعالى) لقّن المصطفى (صلى الله عليه وسلم) الردّ على تلك الإشاعات والأراجيف، قال تعالى: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}[البقرة:142].

2. ضرورة تميز المسلم في عباداته وطاعاته، وشخصيته وسلوكه، ومظهرِه ومخبرِه، فاليهود حينما قالوا: محمد يخالفنا ويتبع قبلتنا وعما قليل سيكون على ديننا؛ كان لا بد أن يصدر الأمر الإلهي باستقلال المسلمين في قبلتهم وتوجههم في الصلاة إلى بيت العرب، فنزل قول الله (عزّ وجلّ): {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ}[البقرة:144].

وقد أرشدنا النبي (صلى الله عليه وسلم) في كثير من أحاديثه إلى ضرورة استقلال المسلم وتميزه في كل أمور حياته وعدم تبعيته إلا لشرائع دينه، وقد حذرنا النبي (صلى الله عليه وسلم) عمومًا من التشبه بغير المؤمنين فيما ليس بخير، فقال (صلى الله عليه وسلم): (مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ) (رواه أبو داود)، وكره النبي (صلى الله عليه وسلم) كما تقدم في مقال سابق أن يتخذ المسلمون ناقوسا كناقوس النصارى، أو بوقا كبوق اليهود، أو إيقاد نار للإعلام بدخول وقت الصلاة وأمر بلالا أن يناديَ بالصلاة. (رواه البخاري)، وحينما علم بصيام اليهود للعاشر من المحرم أراد مخالفتهم فقال: (لَئِنْ بَقِيتُ إِلَى قَابِلٍ لَأَصُومَنَّ التَّاسِعَ) (رواه مسلم)، وعن أنس بن مالك (رضي الله عنه)، أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة فيهم لم يؤاكلوها، ولم يجامعوهنّ في البيوت فسأل أصحابُ النبي (صلى الله عليه وسلم) النبي (صلى الله عليه وسلم) فأنزل الله تعالى: {ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض}[البقرة: 222] إلى آخر الآية، فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): (اصْنَعُوا كُلَّ شَيْءٍ إِلَّا النِّكَاحَ). فبلغ ذلك اليهود، فقالوا: ما يريد هذا الرجل أن يدع من أمرنا شيئا إلا خالفنا فيه) (رواه مسلم).

دروسٌ وعبرٌ من حادث تحويل القبلة في الصلاة

3. مكانة بيت المقدس، وربطه بالمقدسات الإسلامية، فقد أُمر النبي (صلى الله عليه وسلم) بالتوجه إليه في الصلاة التي كانت ركعتين في الصباح وركعتين في المساء ـ تلك الصلاة التي أدركتها السيدة خديجة (رضي الله عنها) مع سيدنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم كما تقدم في مقال سابق، وبعد فرض الصلوات الخمسة بصورتها المعروفة ليلة الإسراء والمعراج أمر النبي (صلى الله عليه وسلم) بالتوجه إليه أيضًا، قال تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ}[البقرة:143]، ولما هاجر النبي (صلى الله عليه وسلم) إلى المدينة ظلّ يتوجه إليه في الصلاة ستة عشر شهرًا أو سبعة عشر شهرًا حتى كان تحويل القبلة إلى الكعبة بيت الله الحرام، فعن البراء بن عازبٍ (رضي الله عنه) قال:

(صَلَّيْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا، أَوْ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا، ثُمَّ صُرِفْنَا نَحْوَ الْكَعْبَةِ…) (متفق عليه)، فبيت المقدس هو أولى القبلتين، وقد رغبنا النبي (صلى الله عليه وسلم) بالصلاة فيه، عن ميمونة، مولاة النبي (صلى الله عليه وسلم) قالت: قلت: يا رسول الله أفتنا في بيت المقدس قال: (أَرْضُ الْمَحْشَرِ وَالْمَنْشَرِ ائْتُوهُ فَصَلُّوا فِيهِ…). قلت: أرأيت إن لم أستطع أن أتحمل إليه؟. قال: (فَتُهْدِي لَهُ زَيْتًا يُسْرَجُ فِيهِ، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَهُوَ كَمَنْ أَتَاهُ) (رواه ابن ماجه)،

وقد بيّن النبي (صلى الله عليه وسلم) أن الصلاة في بيت المقدس بخمسمائة صلاة، فقال (صلى الله عليه وسلم): (الصَّلَاةُ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ بِمِائَةِ أَلْفِ صَلَاةٍ، وَالصَّلَاةُ بِمَسْجِدِي بِأَلْفِ صَلَاةٍ، وَالصَّلَاةُ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ بِخَمْسِ مِائَةِ صَلَاةٍ) (المعجم الكبير للطبراني)، فبيت المقدس هو أحد المقدسات الإسلامية التي لا تفريط فيها ولا هوان.

4. ما عليه اليهود من صفات وخصالٍ ذميمة في كل زمان ومكان، فقد وصفهم القرآن الكريم كما سمعنا بسفاهة العقول وخفتها، قال تعالى: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ}، كما أنهم أصحاب صلفٍ وعنجهيةٍ وغرور، قالوا: (محمدٌ يخالفنا ويتبع قبلتنا، وقالوا للمسلمين: لو لم نكن على هدى ما صليتم لقبلتنا فاقتديتم بنا فيها) (تفسير الطبري)،

كما أنهم أصحاب فتنة وبلبلةٍ وتشويشٍ على المسلمين، يقول ابن عباس (رضي الله عنهما): (صُرِفَتِ الْقِبْلَةُ عَنِ الشَّامِ إِلَى الْكَعْبَةِ……فَأَتَى رَسُولُ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ) رِفَاعَةُ بْنُ قَيْسٍ وَقُرْدُمُ بْنُ عَمْرٍو وَكَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ، وَنَافِعُ بْنُ أَبِي نَافِعٍ، وَالْحَجَّاجُ بْنُ عَمْرٍو حَلِيفُ كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ، وَالرَّبِيعُ بْنُ الرَّبِيعِ بْنِ أَبِي الْحُقَيْقِ، وَكِنَانَةُ بْنُ أَبِي الْحُقَيْقِ، فَقَالَ لَهُ: يَا مُحَمَّدُ! مَا وَلَّاكَ عَنْ قِبْلَتِكَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا وَأَنْتَ تَزْعُمُ أَنَّكَ عَلَى مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَدِينِهِ؟ ارْجِعْ إِلَى قِبْلَتَكَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا نَتَّبِعْكَ، وَنُصَدِّقْكَ، وَإِنَّمَا يُرِيدُونَ فِتْنَتَهُ عَنْ دِينِهِ) (دلائل النبوة للبيهقي)، ومن أراد أن يقف على ذميم خلالهم وسيئ صفاتهم فليرجع إلى أوائل سورة البقرة فقد تحدثت عنهم وعن صفاتهم في أكثر من مائة آية، وليرجع أيضًا إلى رسالة العالِمية (الدكتوراه) (بنو إسرائيل في الكتاب والسنة) لفضيلة الراحل شيخ الأزهر السابق دفين البقيع الدكتور/ محمد سيد طنطاوي (رحمه الله).

5. التأكيد على تحول القيادة الدينية للأرض من الأمة العبرية (أبناء إسحاق بن إبراهيم (عليهما السلام) إلى الأمة العربية (أبناء إسماعيل بن إبراهيم (عليهما السلام)، فتحويل القبلة كان بعد الإسراء والمعراج، وقد أأتم أنبياء بني إسرائيل بالنبي (صلى الله عليه وسلم) في الصلاة ببيت المقدس، وها هو تحويل القبلة من هذا البيت إلى الكعبة بيت الله الحرام بيت العرب وبيت آبائهم وأجدادهم بمثابة التأكيد على ذلك.

6. العبودية الحقة لله باتباع أوامره وإن كانت على غير هوانا، فالنبي (صلى الله عليه وسلم) توجه في الصلاة إلى بيت المقدس ستة عشر شهرًا أو سبعة عشر شهرًا مع أنه كان يتمنى الصلاة تجاه بيت الله الحرام، قال (صلى الله عليه وسلم): (لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يَكُونَ هَوَاهُ تَبَعًا لِمَا جِئْتُ بِهِ) ( السنة لابن أبي عاصم).
7. المؤمن لا بد له من اختبار وامتحان وابتلاء، وقد يكون بالخير، وقد يكون بالشر، قال تعالى: { الم*أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ*وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ }[العنكبوت:1ـ3]، وقال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ}[الأنبياء:35].

والله أعلى وأعلم وهو المستعان وعليه التكلان

دروسٌ وعبرٌ من حادث تحويل القبلة في الصلاة
دروسٌ وعبرٌ من حادث تحويل القبلة في الصلاة
كتبه الشيخ الدكتور
مسعد أحمد سعد الشايب

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى