التعليم
أخر الأخبار

الإيجابية في الكتاب والسنة

((كن إيجابيًا))

الإيجابية في الكتاب والسنة

الحمد الله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء، وسيد المرسلين سيدنا محمد رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وبعد:

((تعريف الإيجابية، وبيان تحلي النبي (صلى الله عليه وسلم) بها))
لما كان الدين الإسلامي دين إصلاحٍ، ودينُ مُثلٍ وقيمٍ وأخلاقٍ كان من جملة الأخلاق التي دعا إلى التمسك بها الإيجابية التي تعني: (التفاعل والتجاوب والعطاء والمشاركة والمساهمة الفعالة في قضايا المجتمع).

تلك الإيجابية التي كان يتصف به النبي (صلى الله عليه وسلم) قبل البعثة، فقد شهد النبي (صلى الله عليه وسلم) ـ وهو في الخامسة عشر من عمره ـ حلف الفضول الذي تداعت إليه قبائل قريش: بنو هاشم، وبنو المطلب، وأسد بن عبد العزى، وزهرة بن كلاب، وتيم بن مرة، فاجتمعوا في دار عبد الله بن جدعان التيمي لسنه وشرفه، فتعاقدوا وتعاهدوا على ألا يجدوا بمكة مظلومًا من أهلها أو من غيرهم إلا قاموا معه، وكانوا على من ظلمه حتى يُرد إليه حقه، قال (صلى الله عليه وسلم): (لَقَدْ شَهِدْتُ فِي دَارِ عَبْدِ اللهِ بْنِ جُدْعَانَ حِلْفًا مَا أُحِبُّ أَنَّ لِيَ بِهِ حُمْرَ النَّعَمِ، وَلَوْ أُدْعَى بِهِ فِي الْإِسْلَامِ لَأَجَبْتُ) (السنن الكبرى للبيهقي).

وفي الخامسة والثلاثين من عمره (صلى الله عليه وسلم) شارك قريشًا تجديد بناء الكعبة بحمل الحجارة على كتفيه، وقضى على الخلاف الذي نشأ بين قريش بسبب الاختلاف على من يتولى وضع الحجر الأسود مكانه. (السيرة النبوية)، فالشخص الإيجابي: هو الذي يتفاعل مع قضايا مجتمعه، ويتأثر بمحيطه ويؤثر فيه.
((دعوة القرآن الكريم للتحلي بالإيجابية))

لو تأملنا في القرآن الكريم لوجدنا العديد من الآيات القرآنية التي تدعوا إلى فعل الخير، وتلك هي الإيجابية بعينها، قال تعالى: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}[البقرة:195]، وقال تعالى: {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا}[النساء:114]، وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}[الحج:77]، وغيرها من الآيات.
((نماذج من الإيجابية في القرآن الكريم))

لم يكتف القرآن الكريم بالدعوات النظرية للتحلي بالإيجابية، فقدم لنا العديد من نماذج التحلي بالإيجابية حتى في أحلك الظروف وأشد الأزمات:

1. موقف تلك النملة الإيجابي من بني جنسها حينما رأت خطرًا يهددهم، ويكاد يهلكهم جميعًا، قال تعالى: {حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ}[النمل:18]، فهذه الحشرة الضعيفة تحلت بالإيجابية والعدل في آنٍ واحد، فلم تكترث لنفسها وحسب، واعتذرت عن سليمان وجنده إن وقع منهم إهلاك النمل، فقالت: {وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ}.

2. موقف ذي القرنين الرجلِ الصالحِ الذي طوّف الدنيا غربًا وشرقًا وشمالًا، ففي رحلته إلى شمال الكرة الأرضية (منطقة البلقان اليوم في قارة أوربا) وجد قومًا بين سدين لا يفقهون كلام أحدٍ ولا يفقه أحدٌ كلامهم، فقالوا بواسطة مترجم: {يَاذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا}[الكهف:94]، عرضوا على ذي القرنين أجرًا مقابل أن يجعل بينهم وبين يأجوج ومأجوج سدًا وحاجزًا فلا يصلون إليهم ويتجنبوا به شرهم وإفسادهم، فردّ عليهم ذو القرنين مستعينًا بالله، وداعيًا لهم إلى الإيجابية والعمل معه والتفاعل مع مشكلاتهم، فقال: {مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا}[الكهف:95].

3. موقف مؤمن آل فرعون ونصرته لموسى (عليه السلام)، وانتهاره للفرعون وجنده، تلك الإيجابية التي قد تكلفه حياته، قال تعالى: {وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ*يَاقَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا}[غافر:29،29]، إلى آخر حواره مع الفرعون وقومه.
((من نماذج الإيجابية في السنة النبوية، ودعوتها إليها))

وكما حثنا القرآن الكريم على التحلي بالإيجابية نظريًا وتطبيقيًا كذلك جاءت سنة نبينا (صلى الله عليه وسلم) ومواقف الصحابة (رضوان الله عليهم) تحثنا على التخلق بهذا الخلق العظيم، كالتالي:

1. قال (صلى الله عليه وسلم): (إِنَّ المُؤْمِنَ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا)، وعن أنس (رضي الله عنه)، قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): (إِنْ قَامَتِ السَّاعَةُ وَبِيَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ، فَإِنْ اسْتَطَاعَ أَنْ لَا يَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَفْعَلْ)، دعوة للإيجابية حتى في عرصات القيامة.

2. وعن جرير بن عبد الله (رضي الله عنه)، قال: كنا عند رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في صدر النهار، فجاءه قوم حفاة عراة…متقلدي السيوف، عامتهم من مضر، بل كلهم من مضر فتمعر (تغير) وجهه (صلى الله عليه وسلم) لما رأى بهم من الفاقة (الحاجة)، فدخل ثم خرج، فأمر بلالًا فأذن وأقام ، فصلى ثم خطب، فقال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} إلى آخر الآية، والآية التي في الحشر: {اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ}، (تَصَدَّقَ رَجُلٌ مِنْ دِينَارِهِ، مِنْ دِرْهَمِهِ، مِنْ ثَوْبِهِ، مِنْ صَاعِ بُرِّهِ، مِنْ صَاعِ تَمْرِهِ ـ حَتَّى قَالَ ـ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ)، فجاء رجل من الأنصار بصرة كادت كفه تعجز عنها، بل قد عجزت، ثم تتابع الناس، حتى رأيت كومين من طعام وثياب، حتى رأيت وجهه (صلى الله عليه وسلم) يتهلل كأنه مذهبة، فقال (صلى الله عليه وسلم): (مَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا بَعْدَهُ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ، وَمَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً سَيِّئَةً كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ).

3. وها هي السيدة خديجة (رضي الله عنها)، تقول للنبي (صلى الله عليه وسلم) حين فجأه الوحي في غار حراء أول مرة: (كَلَّا، أَبْشِرْ فَوَ اللَّهِ لاَ يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا، فَوَ اللَّهِ إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَصْدُقُ الحَدِيثَ، وَتَحْمِلُ الكَلَّ، وَتَكْسِبُ المَعْدُومَ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الحَقِّ) (متفق عليه)، وقال (صلى الله عليه وسلم): (أَحَبُّ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى أَنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ, وَأَحَبُّ الأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى سُرُورٌ تُدْخِلُهُ عَلَى مُسْلِمٍ, أَوْ تَكَشِفُ عَنْهُ كُرْبَةً, أَوْ تَقْضِي عَنْهُ دَيْنًا, أَوْ تَطْرُدُ عَنْهُ جُوعًا, وَلأَنْ أَمْشِيَ مَعَ أَخٍ فِي حَاجَةٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَعْتَكِفَ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ (يَعْنِي مَسْجِدَ الْمَدِينَةِ) شَهْرًا, وَمَنَ كَفَّ غَضَبَهُ سَتَرَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ, وَمَنْ كَظَمَ غَيْظَهُ وَلَوْ شَاءَ أَنْ يُمْضِيَهُ أَمْضَاهُ مَلأَ اللَّهُ قَلْبَهُ رَجَاءً يَوْمَ الْقِيَامَةِ, وَمَنْ مَشَى مَعَ أَخِيهِ فِي حَاجَةٍ حَتَّى يَتَهَيَّأَ لَهُ أَثْبَتَ اللَّهُ قَدَمَهُ يَوْمَ تَزُولُ الأَقْدَامِ) (رواه الطبراني في الكبير)، والأحاديث في ذلك كثيرة جدًا، وما ذُكر يكفي.

4. وهذا أبو طلحة (رضي الله عنه) كان أكثر الأنصار بالمدينة مالًا، وكان أحب أمواله إليه بيرحاء (حديقة)، فلما نزلت: {لَنْ تَنَالُوا البِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ}، قام أبو طلحة إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، فقال: يا رسول الله، إن الله تعالى يقول: {لَنْ تَنَالُوا البِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ}، وإن أحب أموالي إلي بيرحاء، وإنها صدقة لله أرجو برها وذخرها عند الله، فضعها يا رسول الله حيث شئت، فقال (صلى الله عليه وسلم): (بَخٍ، ذَلِكَ مَالٌ رَائِحٌ، ذَلِكَ مَالٌ رَائِحٌ، قَدْ سَمِعْتُ مَا قُلْتَ فِيهَا، وَأَرَى أَنْ تَجْعَلَهَا فِي الأَقْرَبِينَ)، قال: أفعل يا رسول الله، فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه، فتلك إيجابية من أبي طلحة (رضي الله عنه) تجاه القرآن، وتجاه أمر النبي (صلى الله عليه وسلم).

5. وهذا حنظلة بن أبي عامر الراهب (رضي الله عنه) غسيل الملائكة، يسمع نداء الجهاد ليلة عرسه فيلبي على الفور  بإيجابية لامثيل لها، فتناله الشهادة في سبيل الله، فيراه رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) في القتلى فيقول: (إِنَّ صَاحِبَكُمْ تُغَسِّلُهُ الْمَلَائِكَةُ)، فَسَأَلُوا صَاحِبَتَهُ فَقَالَتْ: إِنَّهُ خَرَجَ لَمَّا سَمِعَ الْهَائِعَةَ وَهُوَ جُنُبٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): (لِذَلِكَ غَسَّلَتْهُ الْمَلَائِكَةُ).

الإيجابية في الكتاب والسنة

والله أعلى وأعلم وهو المستعان وعليه التكلان
كتبه الشيخ الدكتور
مسعد أحمد سعد الشايب

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى