للجمل حكاية أخرى … الجحفة
تستقبلك مبتسمة الثّغر، تفتح لك بكفّين مخضّبتين بالحنّاء باب أرضها الغنّاء ، تسحرك ببواسقها وزياتينها وجادّاتها ، بنور شمسها وصفاء سمائها وروعة شطآنها ، تسحرك أينما تنقّلت وتقول لك ” نزلت أهلا وحللت سهلا ” بأرض من يعشق الحبّ ” جزيرة الأحلام جربة .
تستقبلك ، ثمّ تطوف بك كاشفة لك أحد أسرارها ، تستمدّه من ثنايا الموروث ، فتطلعك على مشهد طابعه الاحتفاليّة ، يضرب بجذوره حسب بعض الرّوايات إلى زمن حلول الفاطميين بشمال افريقيا ، إنّه موكب الجحفة الّذي يكون فيه الجمل سيّد المقام وحامل الأمانة والواصل بين روحين التقيا ، مذكّرا في الآن نفسه بهويّة عربيّة متجذّرة في الأعماق .
تعلمك متفاخرة أنّ الجحفة من العادات الّتي تقاوم الفناء في ظلّ تطوّر وسائل النّقل وتغيّر العقليّات ، وتحيلك على بعض تفاصيلها ، إذ يقع إعداد الجحفة بحبّ وشغف كبيرين من طرف أهل العريس ، يطوفون بالبخور حول الجمل تيمّنا وإبعادا لعيون الأذى حتّى تصل عروسهم في أمان ، ثمّ يلبسونه الجحفة ( الهودج ) وهي عادة ما تكون مصنوعة إمّا من أغصان الزّيتون اليابسة والمستقيمة أو من القصب ، تُشكّل بها أقواس متداخلة ، يُحكم ترابطها لتؤلّف قبّة عالية ، وكلّما كانت القبّة أعلى فذاك منتهى الجمال ومدعاة للتفاخر والتّباهي ، داخل هذه القبّة يُهيّأ مكان لجلوس العروس ، أمّا الجمل فماكث في مكانه ، لا يتحرّك وكأنّه مدرك لدوره العظيم ، فصبرا جميلا . يواصل أهل العريس إمتاع النّاظرين بتناسق ألوان أبهى الأغطية والفرش والسّتائر الّتي يزيّنون بها القبّة إضافة إلى الأحزمة والأشرطة الملوّنة كذلك .
تنتهي عمليّة التّزيين بكلّ ما فيها من فنّ وذوق ثمّ ترسل الجحفة محمّلة بالأدعية محفوفة بالزّغاريد لجلب العروس عابرة الجادّات أو الطّرقات المعبّدة ، ومن العادات الّتي بقيت بعض الأسر الجربيّة تحافظ عليها خاصّة في فصل الصّيف هي إرسال الجحفة بعد منتصف اللّيل ليستقبلوها بدورهم مع ساعات الفجر الأولى .
تصل الجحفة إلى دار العروس فتستقبل كذلك بالبخور والزّغاريد وفي لحظات مؤثّرة تركب العروس مودّعة بيت أبيها ، تختلط دموع الفرح بأدعية تبارك الزّواج وتتمنّى دوام الهناء والرّخاء والسّعادة الأبديّة ، بعض العجائز يتذكّرن ركوبهنّ جحفتهنّ في سرديّة طريفة ، هذه تخبر متباهية عن جملها الهادئ الوديع وكيف كانت تترنّح داخل هودجها يمنة ويسرة محمّلة بأحلام ورديّة ، والأخرى تروي منفعلة ما أصابها من توتّر جرّاء هيجان الجمل وتحمد الله أنّ الجحّاف ليلتها كان ذا بأس وشدّة تمكّن من كبح جماحه ، وبعضهنّ يستحضرن طالبات اللّطف بعض الحكايات والأساطير التّي رافقت موكب جحاف في أزمنة مضت .
الجمل ، البطل المبجّل ، يسير الهودج ، يمسك بأحزمته من ذات اليمين وذات اليسار شباب أقوياء ، فحمل الأمانة ثقيل ، والخطو بطيء ، والمسافة قد تطول أو تقصر ، أمّا الأجواء فاحتفاليّة بهيجة ، لا تتوقّف الزّغاريد ولا ضربات ” الدّربوكة ” ، ولا الحناجر تتوقّف عن الغناء التّراثيّ ، وكذا الأيادي تصفّق دون هوادة ، الكلّ في فرحة عارمة ، الأقارب ، الأحباب ، الأصحاب … وما إن يُـشرف الموكب على ديار العريس حتّى يُسمع طلق البنادق استقبالا وابتهاجا بوافد جديد .
هذا بعضٌ من عادات تخلّدها الذّاكرة ، ولعلّ جزئيّات أخرى بقيت مخفيّة في ما يتعلّق بموكب الجحفة ، ومن المؤكّد أنّ البعد الجماليّ في هذا الموروث الثّقافيّ قد تشكّل في ذهنك بصوره وعناصره المختلفة ، ولعلّ العنصر الأبرز هو ذاك الجمل الذّي تتعلّق به الأنظار ، فرض هيبته من رمزيّة ما يحمله وحرصه على ربط أواصر المحبّة بين عاشقين التقيا مؤلّفا حكاية كان هو أحد أبطالها .