حكاية حارق انطلقت رحلته القاسية في تلك اللّيلة الشتوية الباردة. كانت ليلة غير كلّ اللّيالي، امتزجت فيها برودة الجوّ ببرودة العواطف بل بجليد العواطف. مليئة بالأحزان في صمت ليل بهيم ، لحظات الوداع ما أمرّها ᴉ ودّع أمّه وأباه وغادر دون أن ينبس ببنت شفة فالنّظرات والدّموع تغني عن الكلام . في تلك الليلة عاش أهمّ تجربة في حياته ، تجربة الوقوف في منتصف كل شيء ، منتصف الحياة، منتصف الموت، منتصف الفرح والحزن، منتصف النّجاة والغرق، منتصف الحقيقة والخيال، منتصف معانقة الحلم واضمحلاله. قد ينسى تفاصيل حياته بجزئيّاتها الدّقيقة لكنه أبدا لن ينسى ولو تفصيلا واحدا من تفاصيل تلك الليلة ، الليلة التي جمعته بأناس غرباء مختلفي الأفكار ، لكلّ منهم حكايته وماضيه ، أتوا من أماكن متفرّقة ، إلاّ أنّ هاجس الغربة جمعهم وكذا مرارة الظّلم والفقر ومأساة البطالة وما ينجرّ عنها من شعور بالخذلان والحرمان والخصاصة ، جمعهم الشعور بالاغتراب وهوس الرّحيل . لقد نكـل بهم هذا الشعور المؤلم اللّعين إلى حدّ جعلهم يبحثون عن غربة فعلية لا شعورية فحسب ، جمعوا ما استطاعوا من المال ثم توجّهوا لقارب أرى الموت يحاصره في حين يرون النّجاة تحفّ به ، لا أدري أيّـنا يمتلك عين الصّواب ، المهمّ أنهم أجمعوا على ركوب عمق البحر في جوف تلك الليلة محصّنين أنفسهم بدعوات أمّهاتهم لتحول بينهم وبين نهم بحر متقلّب المزاج ، ولترافقهم السلامة حتى يطأوا أوطانا ليست أوطانهم فأوطانهم تبرّأت منهم وأجهضت أحلامهم قبل الولادة . قضوا ساعات طوال يقاومون المدّ والجزر والبرد والخوف متراصّين خشية أن يفتضح أمرهم فـيـُـقـتـادوا إلى زنزانة الموت أو يُــعادوا إلى مساقط رؤوسهم التي لم تقدّم لهم شيئا حسب ما يتردّد على أفواههم عدا أنها احتضنتهم لحظة وضعتهم أمّهاتهم ثم تركتهم في صراع دائم مع المصاعب من أجل لقمة العيش.
سألته قائلة : أ في جوفك قلب ؟ أ في رأسك عقل ؟ كيف تغادر وطنك وترمي بنفسك في البحر هكذا ؟ أجننت ؟
أجابني : في جوفي قلب ينبض بحب الوطن حدّ التّداعي، و في رأسي عقل يعي حجم مأساته حدّ الجنون. وما أنا عليه الآن ليس سوى ضريبة حبّ عظيم ووعي أعظم ، آهٍ ، لو تدركين مدى بشاعة أن يشعر المرء بالاغتراب في وطنه لعذرت تهوّري ولتفهّمت اندفاعي .