دنيا الفن والنجوم

فريضة الصيام

د.مسعد الشايب

فريضة الصيام

د.مسعد الشايب
د.مسعد الشايب
فريضة الصيام
بقلم د.مسعد الشايب

((الصيام يربي فينا التغيير للأحسن والأفضل))
(ملحوظتان في آيات الصيام)
الحمد لله رب العالمين، أعدّ لمَنْ أطاعه جنات النعيم، وسعرّ لمَنْ عصاه نار الجحيم، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأصلي وأسلم على خاتم الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد (صلى الله عليه وسلم)، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
أيها الأحبة الكرام: إن فريضة الصيام شرعت لإحداث التغيير للأحسن والأفضل في نفوسنا، ويدلنا على ذلك التأمل والتدبر في جملة الآيات التي تفردت بها سورة البقرة متحدثةَ عن فريضة الصيام، وأهم أحكامها الفقهية،

واستخراج الملاحظات التي تدل على ذلك:

((الملاحظة الأولى)):
قول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}[البقرة:183].

* والتعبير بالفعل (تتقون) في الآية الكريمة، وهي تتحدث عن تشريع الصيام، والحكمة من فرضيته.

* فالمراد بالفعل (تتقون) ليس الابتداء والإنشاء والاستحداث للتقوى، فالتقوى موجودة بأصل الإيمان، وشهادة التوحيد، والصائم لا يصح صومه إلا إذا كان مسلمًا موحدًا كما قال جمهور الفقهاء.

* وإنما المراد بــ (تتقون) الازدياد من التقوى، والاستمرار والمداومة عليها؛ على ما يفيد التعبير بالفعل المضارع.
وهذا لا يتأتى إلا بالجد والاجتهاد، والمثابرة على الطاعات والعبادات كما تقدم، وبالتحلي بمكارم الأخلاق .

*وهذا هو عين التغيير للأفضل والأحسن، هو عين التغيير في العلاقة بيننا، وبين الله (عزّ وجلّ)، والتحلي بمكارم الأخلاق هو عين التغيير في العلاقة بين المسلم، ونفسه، وأهله، وأرحامه، وجيرانه، وأصدقائه…الخ.

وما يقال في تلك الآية؛ يقال في قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}[البقرة:187].

((الملاحظة الثانية)):
قول الله تعالى: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}[البقرة:185].

والتعبير بالفعل (تشكرون) في الآية الكريمة، وهي تتحدث عن بعض الحالات الخاصة في فريضة الصيام، والحكمة من التخفيف عليهم، فالمراد بالفعل (تشكرون) الاعتراف بنعم الله (عزّ وجلّ) على وجه الخضوع. وقيل: هو ظهور أثر نعمة الله على لسان العبد ثناء واعترافًا، وعلى قلبه شهودًا ومحبّةً، وعلى جوارحه انقيادًا وطاعةً.

فشكر الله (عزّ وجلّ) يجب أن يترجم إلى:
فعلٍ وعملٍ بالأعضاء والجوارح، وعدم اقتصاره على اللسان فقط، قال تعالى: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ}[سبأ:13].

وعن السيدة عائشة (رضي الله عنها): أن النبي (صلى الله عليه وسلم) كان يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه.

فقالت السيدة عائشة: لم تصنع هذا يا رسول الله، وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟.

فقال (صلى الله عليه وسلم): (يَا عَائِشَةُ أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا) (متفق عليه).
كذلك يتحقق الشكر بتسخير النعم الربانية واستعمالها فيما خلقت له، ووضعها الموضع الذي يرضي رب العزة تبارك وتعالى.

فالمال نعمة: وشكرها أن يُوجَّه للخير، وأن يساعد به المحتاجين، ويمسح به دموع المنكوبين، وينفق في مصالح العباد والبلاد.

والعقل والتفكير نعمة: وشكرها أن يفكر بها التفكير السليم الذي يعود على الإنسان وعلى المجتمع كله بالخير والرخاء، أو يتفكر في خلق الله.

والشباب نعمة: وشكرها أن يفنيه في الخير ومرضات الله.

والعين نعمة: وشكرها أن يستعملها في النظر إلى ما أحله الله، كالنظر إلى بديع خلق الله متفكرًا، أو النظر إلى المصحف قارئًا ومتدبرًا.

والأذن نعمة: وشكرها أن يستمع بها إلى ما يعود عليه بالثواب من الله (عزّ وجلّ)، وغير ذلك من نعمة الصحة والشباب والجاه والسلطان.

فكلها نعم سامية يجب أن يشكر الإنسان عليها ربه (عزّ وجلّ) بتسخيرها للخير ونفع العباد، واستعمالها في طاعة الله (عزّ وجلّ).

وصدق الله إذ يقول: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}[النحل:78].

كذلك يتحقق الشكر بمقابلة إحسان المنعم بالإحسان إلى عبيده.

قال تعالى: {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ}[الرحمن:60].

وقال (صلى الله عليه وسلم): (أَحَبُّ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى أَنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ, وَأَحَبُّ الأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى سُرُورٌ تُدْخِلُهُ عَلَى مُسْلِمٍ, أَوْ تَكَشِفُ عَنْهُ كُرْبَةً, أَوْ تَقْضِي عَنْهُ دَيْنًا, أَوْ تَطْرُدُ عَنْهُ جُوعًا.

وَلأَنْ أَمْشِيَ مَعَ أَخٍ فِي حَاجَةٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَعْتَكِفَ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ ـ يَعْنِي مَسْجِدَ الْمَدِينَةِ ـ شَهْرًا, وَمَنَ كَفَّ غَضَبَهُ سَتَرَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ, وَمَنْ كَظَمَ غَيْظَهُ وَلَوْ شَاءَ أَنْ يُمْضِيَهُ أَمْضَاهُ مَلأَ اللَّهُ قَلْبَهُ رَجَاءً يَوْمَ الْقِيَامَةِ , وَمَنْ مَشَى مَعَ أَخِيهِ فِي حَاجَةٍ حَتَّى يَتَهَيَّأَ لَهُ أَثْبَتَ اللَّهُ قَدَمَهُ يَوْمَ تَزُولُ الأَقْدَامِ) (رواه الطبراني في الكبير).

وكل هذه الأمور التي يتحقق بها الشكر، تدفعنا إليها فريضة الصيام دفعًا، وتجرنا إليها جرًا، فشهر رمضان هو شهر التغيير للأحسن والأفضل بما فيه.

وهذا هو عين الرشاد في قوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ}[البقرة:186]، فالآية معطوفة على الآية السابقة قبلها، والرشد هو الهداية كما قال الإمام الطبري، أو هو إصابة الحق وفعله كما قال الإمام الطاهر بن عاشور.
والله أعلى وأعلم، وهو المستعان وعليه التكلان

السابق
العندليب الاسمر
التالي
اللوبيا التونسية

اترك تعليقاً