دنيا ودين

نظرة قرآنية رمضانية

د.مسعد الشايب

نظرة قرآنية رمضانية


د.مسعد الشايب
د.مسعد الشايب
بقلم د.مسعد الشايب
نظرة قرآنية رمضانية

نظرة قرآنية رمضانية، من أقبل على الثقيل نجا من الثقيل

الحمد لله رب العالمين، أعدّ لمَنْ أطاعه جنات النعيم، وسعرّ لمَنْ عصاه نار الجحيم، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأصلي وأسلم على خاتم الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد (صلى الله عليه وسلم)، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
أيها الأحبة الكرام: وردت كلمة (ثقيلا) في القرآن الكريم مرتين، مرة في قوله تعالى خطابًا للنبي (صلى الله عليه وسلم): {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا}[المزمل:5]، والمعنى سننزل عليك يا محمد، ونلقي إليك عن طريق أمين وحينا جبريل (عليه السلام) قولا ثقيلا، ألا وهو كلام الله (عزّ وجلّ) القرآن الكريم.
((وجه الثقل في كتاب الله (عزّ وجلّ)))
وقد ذكر المفسرون لوجه ثقل القرآن الكريم وجوهًا عديدة: منها: ثقل العمل والتكليف به، أي: بفرائضه وحدوده، ولما فيه من الأوامر والنواهي، والوعد والوعيد، ويدل على ذلك قوله تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا}[الأحزاب:72]، فقد ثقلت تكاليفه على السماوات والأرض والجبال، فأبين أن يحملنها.
وقيل: ثقل محمله، وعينه أثناء نزوله على النبي (صلى الله عليه وسلم)، فعن زيد بن ثابت (رضي الله عنه): (…فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، وَفَخِذُهُ عَلَى فَخِذِي، فَثَقُلَتْ عَلَيَّ حَتَّى خِفْتُ أَنْ تَرُضَّ (تكسر) فَخِذِي، ثُمَّ سُرِّيَ عَنْهُ…) (رواه البخاري)، وتقول السيدة عائشة (رضي الله عنها): (وَلَقَدْ رَأَيْتُهُ يَنْزِلُ عَلَيْهِ الوَحْيُ فِي اليَوْمِ الشَّدِيدِ البَرْدِ، فَيَفْصِمُ عَنْهُ وَإِنَّ جَبِينَهُ لَيَتَفَصَّدُ عَرَقًا) (رواه البخاري)، وقال (صلى الله عليه وسلم): (…فَمَا مِنْ مَرَّةٍ يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا ظَنَنْتُ أَنَّ نَفْسِي تَفِيضُ) (مسند أحمد).
وقيل: ثقله في ميزان الحسنات يوم القيامة، ويشهد لذلك قول النبي (صلى الله عليه وسلم): (كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ، ثَقِيلَتَانِ فِي المِيزَانِ، حَبِيبَتَانِ إِلَى الرَّحْمَنِ: سُبْحَانَ اللَّهِ العَظِيمِ، سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ) (متفق عليه)، وقوله: (…وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلَأُ الْمِيزَانَ، وَسُبْحَانَ اللهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلَآَنِ ـ أَوْ تَمْلَأُ ـ مَا بَيْنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ…) (رواه مسلم)، وحديث البطاقة عند الترمذي معروفٌ ومشهورٌ، فإذا كان ذلك حال بعض أنواع الذكر يوم القيامة، فما بالنا بالذكر كله.
وقيل: ثقيل على المنافقين، ويشهد لذلك قوله تعالى: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ}[التوبة:127].
وقيل: ثقله جزالة ألفاظه، وعظمة معانيه، وخلوه عن السفاسف، فهو كلام رب العالمين، وحسبك أنه حوى من المعارف والعلوم ما لا يفي العقل بالإحاطة به، ويشهد لذلك قوله تعالى: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ}[هود:1]، وقوله تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ}[الزمر:23].
((المرة الثانية التي وردت فيها كلمة (ثقيلًا))
والمرة الثانية التي وردت فيها كلمة (ثقيلًا)، في قوله تعالى: {إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا} [الإنسان:27]، الحق تبارك وتعالى يخبر في تلك الآية الكريمة عن أهل الشرك والكفر بأنهم يحبون الحياة الدنيا، ويحرصون على البقاء فيها، وتعجبهم زينتها، وذلك ينسيهم العمل والاستعداد لليوم الثقيل الذي ينتظرهم، ألا وهو يوم القيامة.
((وجه الثقل في يوم القيامة))
وقد وصف يوم القيامة بالثقل؛ لطوله العظيم حتى يثقل على النفوس، ويشهد لذلك قوله تعالى: {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ}[المعارج:4]، وقال (صلى الله عليه وسلم): (مَا مِنْ صَاحِبِ كَنْزٍ لَا يُؤَدِّي زَكَاتَهُ، إِلَّا أُحْمِيَ عَلَيْهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ، فَيُجْعَلُ صَفَائِحَ فَيُكْوَى بِهَا جَنْبَاهُ، وَجَبِينُهُ حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَ عِبَادِهِ، فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، ثُمَّ يَرَى سَبِيلَهُ، إِمَّا إِلَى الْجَنَّةِ، وَإِمَّا إِلَى النَّارِ…) (رواه مسلم).
ووصف أيضًا يوم القيامة بالثقل؛ لشدة أهواله وأحواله، وتعددها، وثقلها على الثقلين، ويشهد لذلك قوله تعالى: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ*وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ*وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ*وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ*وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ*وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ*وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ*وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ*بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ*وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ*وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ*وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ*وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ*عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ}[التكوير:1ـ14].
((الإقبال على الثقيل ينجي من الثقيل))
فمن أقبل على القرآن الكريم بثقله، فواظب على قراءته وتلاوته، وتدبر لمعانيه، وترجمتها جوارحه إلى طاعات وعبادات، كما كان نبينا (صلى الله عليه وسلم) ـ نجا من اليوم الثقيل، نجا من يوم القيامة وشدته، وأهواله، وأحواله، قال (صلى الله عليه وسلم): (الصِّيَامُ وَالْقُرْآنُ يَشْفَعَانِ لِلْعَبْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يَقُولُ الصِّيَامُ: أَيْ رَبِّ، مَنَعْتُهُ الطَّعَامَ وَالشَّهَوَاتِ بِالنَّهَارِ، فَشَفِّعْنِي فِيهِ، وَيَقُولُ الْقُرْآنُ: مَنَعْتُهُ النَّوْمَ بِاللَّيْلِ، فَشَفِّعْنِي فِيهِ)، قال: (فَيُشَفَّعَانِ) (مسند أحمد)، فالقرآن الكريم يتكلم حقيقة يوم القيامة ولا مانع من ذلك في قدرة الله، أو أن الله يوكل ملكًا من الملائكة يتكلم على لسانه، أو يجسد ثواب قراءته وتدبره والعمل به شخصًا ينطق بقدرة الله (عزّ وجلّ)، فيطلب له الرحمة والنجاة من شدة أهوال هذا اليوم وأحواله، ويطلب له الرحمة والنجاة عذاب النيران.
ويقول النبي (صلى الله عليه وسلم): (تَعْلَمُوا سُورَةَ الْبَقَرَةِ، وَآلَ عِمْرَانَ فَإِنَّهُمَا الزَّهْرَاوَانِ، وَإِنَّهُمَا تظِلَّانِ صَاحِبَهُمَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، كَأَنَّهُمَا غَمَامَتَانِ ـ أوْ غَيَايَتَانِ (مظلتان) ـ أَوْ فِرْقَانِ (جماعتان) مِنْ طَيْرٍ صَوَافَّ، وَإِنَّ الْقُرْآنَ يَلْقَى صَاحِبَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِينَ يَنْشَقُّ عَنْهُ قَبْرُهُ كَالرَّجُلِ الشَّاحِبِ فَيَقُولُ: هَلْ تَعْرِفُنِي؟ فَيَقُولُ له: مَا أَعْرِفُكَ، فَيَقُولُ لَهُ الْقُرْآنُ: أَنَا الَّذِي أَظْمَأْتُكَ فِي الْهَوَاجِرِ، وَأَسْهَرْتُ لَيْلَكَ، وإِنَّ كُلَّ تَاجِرٍ مِنْ وَرَاءِ التَّجِارَةِ، وَأَنَا لَكَ الْيَوْمَ وَرَاءَ كُلِّ تِجَارَةٍ، فَيُعْطَى الْمُلْكَ بِيَمِينِهِ وَالْخُلْدَ بِشِمَالِهِ، وَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ تَاجُ الْوَقَارِ، وَيُكْسَى وَالِدَاهُ حُلَّتَيْنِ لَا تَقُومُ لَهُمَا الدُّنْيَا فَيَقُولَانِ: بِمَا كُسِينَا هَذَا؟ فَيُقَالُ لَهُمَا: بِأَخْذِ وَلَدِكُمَا الْقُرْآنَ، ويُقَالُ: اقْرَأْ وَاصْعَدْ فِي دَرَجَ الْجَنَّةِ وَغُرَفِهَا، فَهُوَ فِي صُعُودٍ مَا دَامَ يَقْرَأُ هَذًّا (قراءة سريعة) وَتَرْتِيلًا) (مسند أحمد وشعب الإيمان).
والله أعلى وأعلم، وهو المستعان وعليه التكلان

السابق
تونس عبر التاريخ
التالي
رمضان جانا

اترك تعليقاً