حنين
حنين
بقلم / سهام كاترو
حنين احساس آخر عندما دعاني اكتمال القمر في هذه اللّيلة الرّمضانيّة الرّائقة إلى أن أفكّ أسري من البيت وأغادره سويعات ، ولكن إلى أين ؟
أغراني بأن اتجوّل بين منعطفات مدينة تونس العتيقة لأستنشق من التّاريخ عبقه ، يحضر في مقاهيها المحافظة على طرازها التّقليديّ القديم ، في تفاصيل المعمار و في الحجارة القديمة تزركش المكان بألوانها المختلفة ، في ثريّات معلّقة مصنوعة من النّحاس والبلّور التّونسيّ ، دون أن أنسى الأبواب التّي حافظت على ألوانها وزينتها بين الأخضر والأزرق .
رائحة القهوة العربي تفوح في رحاب أجواء رمضان ، دغدغت أنفي وتركتني أقتفي أثرها ، والأثر آثار فالمقاهي هنا متلاصقة في ألفة وانسجام ، يحتار اختيارك ، لكلّ مقهى سحره ورونقه وحكايته ، لذا تمنح لعينيك هذه المهمّة ، تبحث عن راحتهما واستمتاعهما فاحتكم إليهما ، المقهى محافظ على أصالته بأتمّ معنى الكلمة ، المرقوم ، القعدة التقليديّة ، الجِــرار ، القناديل ، … إلى آخر ذلك من أنفاس الماضي الّتي تمتّع حواسّي كلّها .
استجبت لدعوة كرسيّ وجلست على مفرشه القديم اليدويّ الصنع ، ألوانه تنبض حياة وتتنفّس عشقا إلى الماضي ، بوركت يدا من أتقن وأبدع ، دلّلت نفسي بفنجان قهوة ترافقه قطعتان من غريبّة الحمص من إهداء المحلّ ، نسيت البيت وجدرانه ، وانغمست مع نغمات خلت انّها تنبعث من ذاك المذياع القديم الّذي اتّخذ ركنا يُرى فيه بوضوح ، ليذكّرنا بانّ طرب المجالس كان هو منبعها، ويذكّرني بسهرات رمضان العائليّة التّي كان هو محورها ، إذ كنّا نتجوّل في أثيره ، تحيّة الغروب مع عادل يوسف ، حكايات المرحوم عبد العزيز العروي ، نوادر الحاج كلوف ، شاناب ، … وغيرها من البرامج التّي كانت تؤثّث البرمجة الرّمضانيّة الإذاعيّة ، حينها كانت العائلة ملتئمة الشّمل ، المذياع في ركنه شاهد على تطوّر العصر ، يراقب في صمته ، ويخبرني أنّه ليس مصدر النّغمات غير أنّه يستمتع مثلي بهذا اللّحن الشّجيّ ، إنّه المالوف ، ذلك الفنّ الّذي لا يزال يفرض ذاته في ليالي رمضان لجماله ورونقه وايقاعه الّذي يرتفع بك إلى عوالم روحانيّة أخرى تنسيك صخب الحياة وايقاعها السّريع ، عوالم تؤصّلك في تاريخك وتجعلك تعتزّ بثراء ثقافتك وتنوّعها وقدرتها على الصّمود في زمن تغيّرت فيه أذواق الشّباب وميولاته ممّا يجعل الوافد الغربيّ يجد لنفسه منافذ عريضة واسعة ، زمنه هو زمن الإيقاع السّريع والكلمة السّطحيّة الباهتة التّي لا رسالة لها – في كثير من الأحيان – إلاّ تتـفيه العقول وإفساد الأذواق .
بدأ المقهى يزدحم بزوّاره من أمثالي الّذين يبحثون عن استرجاع ذكريات الزّمن الجميل إطارا وفنّا وعادات وتقاليد وحكايات تؤلّف بين القلوب ، أحنّ إلى زمن جميل أفتقده وعبق ماضٍ أتنفّسه .