أزيز كرسيّ
أزيز كرسيّ
بقلم / سهام كاترو
أزيز كرسيّ أجلستني لتفكّ ضفائري على مقعدي الخشبيّ المألوف ، يأبى أزيزه إلاّ أن يذكّرني ببساطة الحياة من حولي ، أحيانا عندما يسود السّكون المكان حتّى صفير الصّراصير يغيب أجلس عليه وأحرّكه ، آه ، نسيت أن أخبركم أنّه كرسيّ متحرّك متأرجح ، أزيزه يصاحبني منذ صغري ، يؤلّف قصصي ، يروي حكاياتي وأكثر من ذلك يعرف جلّ أسراري التّي أبوح بها إليه حين يسود السّكون .
مقعدي الخشبيّ شكّله أبي ، أحبّك أبي ، عندما علم بأنّ رجلاي فقدتا بعد أعوام من الصّبر على الآلام القدرة على الحركة ، أنا صغيرة ، لا أفقه الأسباب ولا أريد البحث عنها ، لا فائدة من ذلك ، الأهمّ عندي انّ هذا الأزيز يخبرني عن قلّة ذات يدنا ، ذات يد أبي ، أحبّك أبي ، أرضنا صغيرة وشحّ المياه جعلها شحيحة بدورها ، سنوات متكرّرة من الجفاف ، لا يوجد دعم لصغار الفلاّحين ، مجرّد وعود زائفة ، صور تسوّق لتعاطف ومؤازرة واعتراف بالجميل ، مؤقّت ، الصّور تنعكس على مرآة الواقع زيفا وبهتانا والاعتراف بالجميل يتحوّل جحودا ونكرانا ، أيّها الفلاّح الصّغير ستبقى صغيرا ومكافأة على صبرك وإبرازا لمحبّتنا وتقديرنا لصبرك أيضا نزيدك صفة الحقير .
الكرسيّ أبدعته يد فنّان ، الفنّان أبي ، قُـــــدّ من تشابك نور عينيه ، ولمس وجراح يديه ، لمستني يداه ، ربّتتا على كتفي : ” لا تجزعي صغيرتي ، سترقصين مع ألحان الصّيف ، ستتجوّلين بين السّنابل كالعادة ، ستطاردين الفراشات حين يحلّ فصل الرّبيع ، وتطاردين الصّراصير ..” ، أضحك ويضحك ” يا لك من بنت شقيّة ” يضحك وتنزل من عينه دمعة ، آنذاك كنت أحسبها دمعة ضحك لأنّنا جميعنا حين كانت أيّامنا صفوا نضحك ملء أشداقنا ، تنغلق عيوننا ثمّ تدمع ، كنت كثيرا ما أتلوّى من كثرة الضّحك ، مع مرور الوقت أصبحت أتلوّى في سرّي من كثرة الألم ، إذ أخبرني الأزيز أنّ دمعة أبي تلك هي دمعة ألم وعطف ومحبّة ، أنا حينها كنت أضحك ولا أبكي ، الآن أبتسم وتنزل بعض دموعي ، أحبّك أبي .
في العيد تلبس بنات قريتنا فساتين فضفاضة بألوان مزركشة متنافرة أحيانا ، متناغمة أحيانا أخرى ، ليس لأنّه لا ذوق لنا ولكن لأنّ ذلك ما توفّر من بقايا أقمشة خاطت منها أمّهاتنا فساتينهنّ لحضور عرس من أعراس قريتنا ، فشراء الأقمشة مناسبتيّ لأنّ قريتنا بعيدة عن المدينة وذوقها الرّفيع كما يزعمون ، أمّا أنا ، فقد لبسني الكرسيّ ، إبداع أبي ، كان ملوّنا مزركشا كفساتين الفتيات اللاّتي حضرن لتهنئتي بالعيد ، اكتنفني شعور غريب ، امتزجت بسمتي بأنيني ، فرحتي بألمي ، أملي بضياعي وتيهي ، عينه كانت تراقبني ، وأنا طفلة صغيرة ، كنت على يقين من أنّه ينتظر أن أتعلّق برقبته شاكرة ، غير أنّي لا أستطيع ، ينتظر أن أراقص البالونات الملوّنة الّتي أطلقها حرّة تحوم حولي ، غير أنّي لا أستطيع ، ينتظر ان ألعب وأمرح وامزّق فستاني كالعادة فتستشيط أمّي غضبا ويسكتها بقوله ” دعي الفتاة تمرح فإن لم تمرح الآن فمتى ستمرح ؟” وكأنّما أدرك أنّ المرح سيفارقني سريعا ، غير انّي لا أستطيع ، لم أعد أستطيع ولن أستطيع ، أحبّك أبي .
انفكّت ضفائري وتحرّرت ، مرّرت على شعري أناملها ، أدارتني إليها ، أطلق الكرسيّ صوته المألوف ، قالت ” سئمت هذا الأزيز” أجاب صمتي ” اشتقت إليك يا أبي ” .