التعليم
أخر الأخبار

صور ومظاهر الرحمة والتيسير في فريضة الحج

 صور ومظاهر الرحمة والتيسير في فريضة الحج

((ثلاثة مظاهر تفك إلى تسعة مظاهر))

الحمد لله رب العالمين، أعدّ لمَنْ أطاعه جنات النعيم، وسعرّ لمَنْ عصاه نار الجحيم، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأصلي وأسلم على خاتم الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد (صلى الله عليه وسلم)، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:

فيقول الحق تبارك وتعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}[البقرة:185]، يدرك تلك الحقيقة كلُّ من تأمل في تلك الفريضة المباركة، فيجد الرحمةٌ عند فرضيتها، ويستشعر الرحمة في أداء مناسكها

صور ومظاهر الرحمة والتيسير في فريضة الحج
صور ومظاهر الرحمة والتيسير في فريضة الحج

وشعائرها، كالتالي:

((فالحج أولا فريضة العمر))

بمعنى أنه لا يجب في العمر إلا مرة واحدة، ويجب على التراخي لا على الفور، فهو من الواجب الموسع عند جهور أهل العلم، فعن أبي هريرة (رضي الله عنه) قال: خطبنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فقال: (أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ فَرَضَ اللهُ عَلَيْكُمُ الْحَجَّ، فَحُجُّوا). فقال رجل: أكل عام يا رسول الله؟ فسكت حتى قالها ثلاثا، فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): (لَوْ قُلْتُ: نَعَمْ لَوَجَبَتْ، وَلَمَا اسْتَطَعْتُمْ). ثم قال: (ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ، فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ، وَاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ، فَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ، وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَدَعُوهُ) (رواه مسلم).

((كما أن الحج لا يجب إلا على كل مستطيع استطاعة بدنية ومالية))

أي: يستطيع تحمل مشاق السفر والعودة، ومشاق أداء الشعائر والمناسك، ويكون مالكا للمال الذي يكفيه في سفره هذا، ويكفي من يعولهم مَنْ الأهل والأولاد لحين عودته من أداء الشعائر والمناسك، وهو المعبر عنه في الفقه الإسلامي: بملك الزاد والراحلة، بالإضافة إلى أمان طريق الحج، قال تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ}[آل عمران:97]، فالحج في الآية من العام المخصوص.

((فريضة الحج نفسها مبنية على التيسير ورفع الحرج في أداء مناسكها وشعائرها))

فالله (عز وجل) يريد بنا اليسر ولا يريد بنا العسر، ولم يجعل علينا في الدين من حرج، والنبي (صلى الله عليه وسلم) ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما، والقاعدة الفقهية تقول: إذا ضاق الأمر اتسع، ومن تأمل في فريضة الحج؛ وجد مظاهر عديدة للتيسير، ورفع الحرج في أداء مناسكها وشعائرها كالتالي:

1. جواز تقديم السعي على الطواف: عند الضرورة، والاحتياج لذلك، فالأصل في حال السعة والاختيار أن يكون السعي بعد طواف, لكن في حال الضيق والاضطرار بسبب الزحام، أو الوهن البدني محافظة على أرواح الحجيج، أو عند الجهل، أو النسيان، أفتى بعض أهل العلم بجواز ذلك، فعن أسامة بن شُريك (رضي الله عنه) قال: خرجت مع النبي (صلى الله عليه وسلم) حاجًا فكان الناس يأتونه، فمن قال: يا رسول الله، سعيت قبل أن أطوف أو قدمت شيئا أو أخرت شيئا فكان يقول: (لَا حَرَجَ لَا حَرَجَ، إِلَّا عَلَى رَجُلٍ اقْتَرَضَ عِرْضَ رَجُلٍ مُسْلِمٍ وَهُوَ ظَالِمٌ، فَذَلِكَ الَّذِي حَرِجَ وَهَلَكَ) (رواه أبو داود)، وظاهر الحديث يدل على أن السائل سأل النبي (صلى الله عليه وسلم) عن تقديم السعي، ولم يصرح في سؤاله عن الطواف، وجاءت الإجابة بأنه (لَا حَرَجَ) فالطواف في سؤال السائل يعمّ طواف النفل والفرض، ومن ثم كان الحديث يجيز تقديم السعي على الطواف مطلقًا.

2. ترك المبيت بالمزدلفة، والنفرة منها بعد منتصف الليل قبل الزحام: وخصوصا لذوي الأعذار والحاجة، ولا شيء عليهم، فعن عائشة (رضي الله عنها) قالت: (نَزَلْنَا المُزْدَلِفَةَ فَاسْتَأْذَنَتِ النَّبِيَّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) سَوْدَةُ، أَنْ تَدْفَعَ قَبْلَ حَطْمَةِ النَّاسِ، وَكَانَتِ امْرَأَةً بَطِيئَةً، فَأَذِنَ لَهَا، فَدَفَعَتْ قَبْلَ حَطْمَةِ النَّاسِ، وَأَقَمْنَا حَتَّى أَصْبَحْنَا نَحْنُ، ثُمَّ دَفَعْنَا بِدَفْعِهِ، فَلَأَنْ أَكُونَ اسْتَأْذَنْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) كَمَا اسْتَأْذَنَتْ سَوْدَةُ، أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ مَفْرُوحٍ بِهِ) (متفق عليه)، (حطمة الناس) زحمتهم، (مفروحٌ به) ما يفرح به من كل شيء. وعن ابن عمر (رضي الله عنهما): (أَنَّ رَسُولَ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَذِنَ لِضَعَفَةِ النَّاسِ مِنَ الْمُزْدَلِفَةِ بِلَيْلٍ) (مسند أحمد)، وكان عبد الله بن عمر (رضي الله عنهما) يقدم ضعفة أهله، فيقفون عند المشعر الحرام بالمزدلفة بليل فيذكرون الله ما بدا لهم، ثم يرجعون قبل أن يقف الإمام وقبل أن يدفع، فمنهم من يقدم (منى) لصلاة الفجر، ومنهم من يقدم بعد ذلك، فإذا قدموا رموا الجمرة وكان ابن عمر (رضي الله عنهما) يقول: (أَرْخَصَ فِي أُولَئِكَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) (رواه البخاري)، فيكفي الحاج أن يقف بالمزدلفة وقتا يسع حطّ رحاله، و يسع صلاته المغرب والعشاء جمعًا وقصرًا، و يسع استراحته استراحة خفيفة.

3. جواز رمي جمرة العقبة الكبرى يوم النحر قبل طلوع الشمس بل وقبل صلاة الفجر: وخصوصا لذوي الأعذار والضعفة كالنساء والصبيان، فعن أسماء بنت أبي بكر (رضي الله عنهما): أنها نزلت ليلة جُمعٍ عند المزدلفة، فقامت تصلي، فصلت ساعة ثم قالت لمولاها عبد الله بن كيسان: (يَا بُنَيَّ، هَلْ غَابَ القَمَرُ؟). قلت: لا. فصلت ساعة، ثم قالت: (يَا بُنَيَّ، هَلْ غَابَ القَمَرُ؟). قلت: نعم، قالت: (فَارْتَحِلُوا). فارتحلنا ومضينا، حتى رمت الجمرة، ثم رجعت فصلت الصبح في منزلها، فقلت لها: يا هنتاه ما أرانا إلا قد غلّسنا، قالت: (يَا بُنَيَّ، إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَذِنَ لِلظُّعُنِ) (رواه البخاري)، (يا هنتاه) يا هذه. (غلّسنا) تقدمنا على الوقت المشروع من التغليس وهو السير في ظلمة آخر الليل. (للظعن) جمع ظعينة وهي المرأة وقيل المرأة في الهودج.

4. جواز ترك الترتيب بين أعمال يوم النحر: فالأعمال التي تؤدى يوم النحر أربعة هي: رمى جمرة العقبة الكبرى، والنحر لمن وجب عليه، والحلق أو التقصير، وطواف الركن أو الإفاضة، وقد رتبها النبي (صلى الله عليه وسلم)، فعن ابن عباس (رضي الله عنهما) قال: (رَمَى رَسُولُ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ، ثُمَّ ذَبَحَ، ثُمَّ حَلَقَ) (مسند أحمد).

 

وترتيب هذه الأعمال كما رتبها النبيّ (صلى الله عليه وسلم) ليس بلازم، وهذا مظهر من مظاهر التيسير، ورفع الحرج في فريضة الحج، فعن عبد الله بن عمرو (رضي الله عنهما) قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وأتاه رجل يوم النحر وهو واقف عند الجمرة، فقال: يا رسول الله، إني حلقت قبل أن أرمي، فقال: (ارْمِ وَلَا حَرَجَ). وأتاه آخر فقال: إني ذبحت قبل أن أرمي، قال: (ارْمِ وَلَا حَرَجَ). وأتاه آخر، فقال: إني أفضت إلى البيت قبل أن أرمي، قال: (ارْمِ وَلَا حَرَجَ). قال: فما رأيته سئل يومئذ عن شيء، إلا قال: (افْعَلُوا وَلَا حَرَجَ) (اللفظ لمسلم). والحكمة من ترخيص النبيّ (صلى الله عليه وسلم) للحجيج يوم النحر، بأن يفعلوا من أعماله ما يقدرون عليه بحسب استطاعة كل واحد منهم دون الالتزام بترتيب واحد يجمع الكل في وقت محدد، هو أن يتوزع الحجيج على أكثر من مكان، حتى لا يجتمعوا كلهم على عمل واحد فيحدث التزاحم والتدافع المؤدي إلى التهلكة وإتلاف النفوس، قال تعالى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}[البقرة:195].

5. ترك المبيت بمنى أيام التشريق في حالة الأعذار: قياسًا على أحوال الرعاة والسقاة والمرضى والمسنين الذين رخص لهم النبيّ (صلى الله عليه وسلم) في تركه أيام الرمي لانشغالهم بالرعي خارج حدود منى، وقيامهم على أمور السقاية بمكة، فعن ابن عمر (رضي الله عنهما) قال: استأذن العباس بن عبد المطلب (رضي الله عنه) رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أن يبيت بمكة ليالي منى، من أجل سقايته، (فَأَذِنَ لَهُ) (رواه البخاري)، ومن الأعذار المبيحة لترك المبيت بمنى أيام التشريق ألا يكون للحاج مكان يبيت فيه بمنى، فيجوز أن يبيت خارجها قريبًا منها أو بعيدًا عنها بحسب قدرته واستطاعته, ولا فدية عليه لعجزه وعدم قدرته على المبيت فيها، ومنها القيام على حراسة الأموال في غير منى كما في سنن أبي داود من سؤال عبد الرحمن بن فروخ لابن عمر (رضي الله عنهما).

6. جواز الجمع بين طواف الركن (الإفاضة) وطواف الوداع: فطواف الإفاضة يستحب تعجيله يوم النحر كما فعل النبي (صلى الله عليه وسلم)، لكن يجوز تأخيره إلى آخر أفعال الحج، وفى تلك الحالة يرى كثير من الفقهاء أنه يقوم مقام طواف الوداع إذا نواه معه، فعن عبد الرحمن بن أبي بكر (رضي الله عنهما) أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال له: (اخْرُجْ بِأُخْتِكَ مِنَ الْحَرَمِ فَلْتُهِلَّ بِعُمْرَةٍ، ثُمَّ لِتَطُفْ بِالْبَيْتِ، فَإِنِّي أَنْتَظِرُكُمَا هَا هُنَا). تقول السيدة عائشة (رضي الله عنها): قالت: فخرجنا فأهللت، ثم طفت بالبيت وبالصفا والمروة، فجئنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وهو في منزله من جوف الليل، فقال: (هَلْ فَرَغْتِ؟). قلت: نعم، فآذن في أصحابه بالرحيل، فخرج فمر بالبيت فطاف به قبل صلاة الصبح، ثم خرج إلى المدينة. (متفق عليه)، وليس فيه أنه (صلى الله عليه وسلم) أمرها بطواف الوداع بعدما طافت وسعت للعمرة.

صور ومظاهر الرحمة والتيسير في فريضة الحج

7. جواز النيابة والوكالة في جميع أعمال الحج: بشروط مفصلة في كتب الفقه الإسلامي، فعن ابن عباس (رضي الله عنهما) قال: جاءت امرأة من خثعم عام حجة الوداع، قالت: يا رسول الله إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخًا كبيرًا لا يستطيع أن يستوي على الراحلة فهل يقضي عنه أن أحج عنه؟. قال: (نَعَمْ)(متفق عليه)، وعن علي (رضي الله عنه)، قال: (أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَنْ أَقُومَ عَلَى بُدْنِهِ وَأَقْسِمَ جُلُودَهَا وَجِلَالَهَا، وَأَمَرَنِي أَنْ لَا أُعْطِيَ الْجَزَّارَ مِنْهَا شَيْئًا) (رواه مسلم).

والله أعلى وأعلم وهو المستعان وعليه التكلان

كتبه الشيخ الدكتور

مسعد أحمد سعد الشايب

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى