الزكاة وأثرها في تحقيق التوازن المجتمعي
(من فوائد الزكاة والصدقات)
الحمد الله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء، وسيد المرسلين سيدنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وبعد:
((دعوةُ الإسلام للتكافل والترابط بين أفراد المجتمع))
فمن أوجب الواجبات علينا ـ وخصوصا في أوقات الضيق والشدة والأزمات كالمجاعات والجوائح والأوبئة والأمراض كجائحة الكورونا اليوم ـ من أوجب الواجبات علينا في هذه الظروف أن نتكافل، ونتكاتف، ونتراحم ويقف بعضُنا بجوار بعضِنا، كما أمرنا نبينا (صلى الله عليه وسلم)، فقال: (مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا، نَفَّسَ اللهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ، يَسَّرَ اللهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا، سَتَرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَاللهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ…)(رواه مسلم)، وقال (صلى الله عليه وسلم): (مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ، وَتَرَاحُمِهِمْ، وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى)(رواه مسلم)، فالإسلام هو دين الإنسانية، دين الرحمة، دين التكافل والتكاتف والترابط.
ومن رحمة الله (عزّ وجلّ) أنه لم ينس المكروبين وأصحاب الأزمات، فقد عالج أزماتهم وكرباتهم بطرق متعددة مختلفة: بعضها يرجع للمكروب وصاحب الأزمة نفسه كالدعاء واللجوء إلى الله كما كان من يونس (عليه السلام)، وبعضها يرجع للمجتمع كالاستعداد الأمثل لتلك الجوائح والأزمات، وبعضها يرجع للمبادئ والتشريعات كتشريع الزكاة والصدقات والكفارات، فقد جاءت الشريعة الإسلامية بجملة من التشريعات، والقيم والأخلاق تقضي على الشدائد والأزمات، وتحرر الإنسان وتخلصه من أضرارها وأخطارها، وتضمن له حياة كريمة تليق بآدميته وكرامته، وهذا من عظمة الإسلام، ومن عالميته، ومن إصلاحه لكلّ زمان ومكان.
((من أثر الزكاة والصدقات في تحقيق التوازن المجتمعي))
ومن هذه الحلول والتشريعات التي قدمها الإسلام لتفادي الأزمات والكربات وتحقيق التكافل والترابط والتوازن المجتمعي، الزكاة المفروضة، بالإضافة إلى الصدقات الاختيارية التطوعية، فالاثنان لهما أثر كبير في تحقيق التكافل والترابط والتوازن المجتمعي، كالتالي:
1. الزكاة والصدقات الاختيارية التطوعية يغطيان أكبر شريحة كبيرة من الفئات الضعيفة والمحتاجة في المجتمع، فقد وزعت الشريعة الإسلامية الزكاة والصدقات على ثمانية مصارف ليغطيا أكبر شريحة من الفئات الضعيفة والمحتاجة في المجتمع، قال تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}[التوبة:60]، فالزكاة والصدقات هما مظلة التكافل الاجتماعي في الإسلام، وهما الضمان لحياة كريمة للفئات والأصناف الضعيفة في المجتمع.
ومن جملة الحاجات التي تسدّها الزكاة والصدقات لتلك الأصناف والفئات الضعيفة؛ مواجهة الجوائح والأزمات والأوبئة والأمراض، كما كان من نبينا (صلى الله عليه وسلم) قبل بعثته فحينما رجع (صلى الله عليه وسلم) ليلة غار حراء يرتجف فؤاده ويقول: (زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي)، فزملوه (صلى الله عليه وسلم) حتى ذهب عنه الروع، فقصّ على السيدة خديجة (رضي الله عنها) وأخبرها خبر الوحي وقال لها: (لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي). فقالت له: (كَلَّا، أَبْشِرْ فَوَاللَّهِ لاَ يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا، فَوَاللَّهِ إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَصْدُقُ الحَدِيثَ، وَتَحْمِلُ الكَلَّ، وَتَكْسِبُ المَعْدُومَ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الحَقِّ)(متفق عليه)، وقال (صلى الله عليه وسلم): (إِنَّ الأَشْعَرِيِّينَ إِذَا أَرْمَلُوا فِي الغَزْوِ، أَوْ قَلَّ طَعَامُ عِيَالِهِمْ بِالْمَدِينَةِ جَمَعُوا مَا كَانَ عِنْدَهُمْ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ اقْتَسَمُوهُ بَيْنَهُمْ فِي إِنَاءٍ وَاحِدٍ بِالسَّوِيَّةِ، فَهُمْ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُمْ)(متفق عليه)، وفي مجاعة عام الرمادة (أواخر17هـ وأول18هـ) في عهد عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) أصاب الناس قحطٌ وجدبٌ شديدين، لم يعهد مثلهما مع طاعون عمواس، فكتب عمر (رضي الله عنه) إلى الأمراء بالأمصار يستمدّهم لأهل المدينة، فجاء أبو عبيدة بأربعة آلاف راحلة من الطعام، وأصلح عمرو بن العاص بحر القلزم وأرسل فيه الطعام من مصر. (كتب التاريخ).
2. الزكاة، والصدقات الاختيارية التطوعية يساعدان الفئات والأصناف الضعيفة على الاحتراف، ويخلقا فرصًا للتجارة والمرابحة: فقد قرر الفقهاء أن الفقير والمسكين والمحتاج المحترف (صاحب المهنة والعمل) يُعطي ما يشتري به أدوات حرفته، قلت قيمتها أو كثُرت، ويعطى بقدر ما يقيم مهنته، وتجارته، ويحقق له ربحًا يكفيه ويكفي أسرته، وهذا ما أرشدنا إليه النبي (صلى الله عليه وسلم)، فعن قبيصة بن مخارق الهلالي (رضي الله عنه)، أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: (يَا قَبِيصَةُ إِنَّ الْمَسْأَلَةَ لَا تَحِلُّ إِلَّا لِأَحَدِ ثَلَاثَةٍ: رَجُلٍ، تَحَمَّلَ حَمَالَةً، فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَهَا، ثُمَّ يُمْسِكُ، وَرَجُلٌ أَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ اجْتَاحَتْ مَالَهُ، فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَ قِوَامًا مِنْ عَيْشٍ ـ أَوْ قَالَ سِدَادًا مِنْ عَيْشٍ ـ وَرَجُلٌ أَصَابَتْهُ فَاقَةٌ حَتَّى يَقُومَ ثَلَاثَةٌ مِنْ ذَوِي الْحِجَا مِنْ قَوْمِهِ: لَقَدْ أَصَابَتْ فُلَانًا فَاقَةٌ، فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَ قِوَامًا مِنْ عَيْشٍ ـ أَوْ قَالَ سِدَادًا مِنْ عَيْشٍ ـ فَمَا سِوَاهُنَّ مِنَ الْمَسْأَلَةِ يَا قَبِيصَةُ سُحْتًا يَأْكُلُهَا صَاحِبُهَا سُحْتًا)(رواه مسلم).
ومن قوام العيش وسداده أن يعطى الفقير والمسكين والمحتاج ما تقوم به حرفته ومهنته، فعن عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) قال: (إِذَا أَعْطَيْتُمْ فَأَغْنُوا)(مصنف عبد الرزاق)، كما أن من مصارف الزكاة سهم الغارمين، والغارم هو الذي لا يستطيع الوفاء بدين عليه، ولم يكن دينه في معصية، ويدخل في معنى الغارم أيضا من خسر تجارته أو مصنعه أو بضاعته، ومن هنا فإن إعطاء الزكاة لهم يعني إعادة تأهليهم، وإعادتهم للتجارة، والمهنية، والاحتراف مرة ثانية.
3. الزكاة، والصدقات الاختيارية التطوعية ينعشان الاقتصاد الوطني، ويساعدا في تحقيق التنمية: وانتعاش اقتصاد الأوطان يعود بالإيجاب على الفئات والأصناف الضعيفة، ويساهم بأعلى نسبة في تخفيف حدة الفقر عن كاهلهم، وذلك بإنشاء المصانع التي يعملون بها، ويتحولون بها إلى أشخاص عاملين منتجين، وبإنشاء المستشفيات، والمدارس إلى غير ذلك من المؤسسات الحكومية التي تقوم بخدمة هذه الأصناف.
وقد فقه الصحابة (رضي الله عنهم) تلك الحقيقة فقاموا بدفع الزكوات والصدقات لرسول الله (صلى الله عليه وسلم)؛ إنعاشًا لاقتصاد الدولة المسلمة، وتخفيفًا عن كاهل الفئات والأصناف الضعيفة، فعن أسلم العدوي (رضي الله عنه) قال: سمعت عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) يقول: أمرنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يوما أن نتصدق، فوافق ذلك مالا عندي، فقلت: اليوم أسبق أبا بكر إن سبقته يوما، فجئت بنصف مالي، فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): (مَا أَبْقَيْتَ لِأَهْلِكَ؟). قلت: مثلَه، قال: وأتى أبوبكر (رضي الله عنه) بكل ما عنده، فقال له رسول الله (صلى الله عليه وسلم): (مَا أَبْقَيْتَ لِأَهْلِكَ؟). قال: أبقيت لهم الله ورسوله، قلت: لا أسابقك إلى شيء أبدا. (رواه أبو داود)، وهذا عثمان بن عفان (رضي الله عنه) يشتري بئر رومة من اليهود، ويجعله للمسلمين، ويقوم بتوسعة مسجد النبي (صلى الله عليه وسلم) حينما ضاق بالمسلمين. (رواه الترمذي)، وفي عصرنا هذا رأينا كيف أن الزكاة والصدقات يساعدان الدولة كقيام بعض رجال الأعمال بتطوير المناطق العشوائية، والتكفل بمساعدة سكانيها، وإيجاد فرص عمل لهم.
4. الزكاة، والصدقات الاختيارية التطوعية يعيدان توزيع الثروة والدخل: ولذا تولى الحق تبارك وتعالى قسمتها بنفسه، ولم يوكلها لنبي من الأنبياء، فعن زياد بن الحارث الصدائي (رضي الله عنه)، أن رجلًا جاء إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) فقال: أعطني من الصدقة، فقال له رسول الله (صلى الله عليه وسلم): (إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَرْضَ بِحُكْمِ نَبِيٍّ وَلَا غَيْرِهِ فِي الصَّدَقَاتِ، حَتَّى حَكَمَ فِيهَا هُوَ، فَجَزَّأَهَا ثَمَانِيَةَ أَجْزَاءٍ، فَإِنْ كُنْتَ مِنْ تِلْكَ الْأَجْزَاءِ أَعْطَيْتُكَ حَقَّكَ)(رواه أبو داود).
هذا التوزيع على تلك الأصناف الثمانية الأكثر احتياجا في المجتمع يساعد على تحقيق العدالة الاجتماعية، ويخفف من حدة الفقر، ويدخل تحت قول المولى تبارك وتعالى: {كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ}[الحشر:7]، و كل ذلك يتحقق من خلال الزكوات، والصدقات التي تؤخذ من الأغنياء وتعطى للفقراء وبقية الأصناف الثمانية سنويا، ولا تسقط أبدًا عن الأغنياء، وهذا مما يزيد من فعاليتها، كما أن الصدقات لا وقت محدد لإخراجها، فالزكاة والصدقات وعاء ادخاري كبير، ومورد مالي ضخم؛ لأنها تؤخذ من كل مالٍ نامٍ (قابل للنمو والزيادة)، والأصل فيها أنها لا تصرف إلا في بلد المزكي والمتصدق، ولا تنقل من بلدهما إلا لضرورة.