عام

محاسبة النفس

محاسبة النفس

مفهوم محاسبة النفس، وبيان مكانتها

أيها الأحبة الكرام: فمن عقيدة أهل السنة والجماعة الإيمان باليوم الأخر وما فيه من أهوال وأحوال، وأعظمُها وأشدُّها نصبُ الموازين وبدء الحساب، ثم المصير إما إلى جنةٍ وإما إلى نارٍ، قال تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ}[الأنبياء:47]، وقال تعالى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ*وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}[آل عمران:107،106].

فالعاقل هو من يحاسب نفسه قبل أن يحاسب، ويعلم أنه لا نجاة له من هذا اليوم وأهواله وأحواله إلا بعمل الصالحات من العبادات والطاعات في الدنيا، فتعالوا بنا أحبتي في الله بإذن من الحق تبارك وتعالى في لقاء الجمعة الطيب المبارك، لنعيش مع خلقٍ من أخلاق الإسلام العالية، وقيمةٍ من قيمه ومثله السامية ألا وهي (محاسبة النفس)، تعالوا بنا نتعرفُ على معناها، ونرى الآيات والأحاديث التي حثتنا على التحلي والتخلق بها، ونرى بعض فوائدها وأضرار تركها، ونرى نماذج من محاسبة النفس لسلفنا الصالح (رضي الله عنهم)، فأعيروني يا عباد الله…فأقول وبالله التوفيق:

======

كلمة المحاسبة في لغتنا العربية الشماء: مصدر حاسب يحاسب، وهي مأخوذة من مادّة (ح س ب) الّتي تدلّ على العدّ والاستقصاء، تقول: حسبت الشّيء أحسبه حسبا وحسبانا، وحسابا وحسابة إذا عددته، ومنه قولهم: ليكن عملك بحسب ذلك، أي على قدره وعدده.

======

ومحاسبة النفس في شريعتنا الإسلامية الغراء: تعني أن يميز العبد بين ماله أن يفعله، وما عليه أن يجتنبه، فيستصحب ما له ويجتنب ما عليه؛ لأنه مسافر سفر مَنْ لا يعود، قال تعالى: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ}[البقرة:197].

======

(قلت): فالمحاسبة هنا تكون قبل الفعل، تصحيحًا للنية وإخلاصًا لها، واستبيانا للحلّ والحرمة، فلا يُقدم المكلف على قول أو فعل قبل أن يسأل نفسه هل هو جائز مباح، أم حرام مكروه؟ حتى لا يقع في مغبّته وسوء عاقبته يوم القيامة.

======

وقال الإمام الماوردي (رحمه الله): المحاسبة هي أن يتصفّح الإنسان في ليله ما صدر من أفعال في نهاره، (والعكس)، فإن كانت أفعالُه محمودةً أمضاها وأتبعها بما شاكلها وضاهاها، وإن كانت مذمومة استدركها إن أمكن، وانتهى عن مثلها في الـمستقبل.

======

(قلت): فالمحاسبة هنا بعد الفعل، لعل المرء نسي أو قصر في شيء كان ينبغي أن يفعله، وقد تأتي المحاسبة بعد الفعل تجديدًا للنية والإيمان، وتوبة واستغفارًا عن الإساءة، وكلتاهما (المحاسبة قبل الفعل وبعده) مرادٌ للمرء حتى ينجى من عذاب جهنم يوم القيامة.

===========================================

(2) ((من الآيات والأحاديث، والآثار الداعية إلى محاسبة النفس))

===========================================

هذه المحاسبة أخوة الإيمان والإسلام بهذا المفهوم ـ قبل فعل الشيء وبعد فعله ـ حثتنا على التحلي والتخلق بها العديد من الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية الشريفة، والآثار:

===

منها: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ* وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}[الحشر:19،18]، أي: لينظر أحدكم أيَّ شيء قدم لآخرته؟ أعملًا صالحًا ينجيه، أم طالحًا يهلكه ويرديه، فالمحاسبة هنا بعد الفعل.

===

ومنها: قوله تعالى: {لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ*وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ}[القيامة:2،1]، قال الإمام الفراء (رحمه الله): (لَيْسَ مِنْ نَفْسٍ بَرَّةٍ وَلَا فَاجِرَةٍ إِلَّا وَهِيَ تَلُومُ نَفْسَهَا، إِنْ كَانَتْ عَمِلَتْ خَيْرًا قَالَتْ: هَلَّا ازْدَدْتُ، وَإِنْ عملت شرا قالت: لَيْتَنِي لَمْ أَفْعَلْ)(معاني القرآن)، وقال الحسن البصري: هي النفس المؤمنة، (لَا يُلْقَى الْمُؤْمِنُ إِلَّا يُعَاتِبُ نَفْسَهُ مَاذَا أَرَدْتُ بِكَلِمَتِي مَاذَا أَرَدْتُ بِأَكْلَتِي مَاذَا أَرَدْتُ بِشَرْبَتِي، وَالْعَاجِزُ يَمْضِي قُدُمًا لَا يُعَاتِبُ نَفْسَهُ)(محاسبة النفس لابن أبي الدنيا أثر رقم:4)، والمحاسبة هنا أيضًا بعد الفعل.

===

ومنها: ما رواه شداد بن أوس (رضي الله عنه)، أنّ النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: (الكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ (حاسب نفسه في الدنيا قبل أن يحاسب يوم القيامة)، وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ المَوْتِ، وَالعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا وَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ)(رواه الترمذي)، والمحاسبة هنا عامة.

===

ومنها: ما رواه ابن عمر (رضي الله عنهما) أنه قال: كنت مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، فجاءه رجل من الأنصار، فسلم على النبي (صلى الله عليه وسلم)، ثم قال: يا رسول الله أي المؤمنين أفضل؟. قال: (أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا). قال: فأي المؤمنين أكيس؟ قال: (أَكْثَرُهُمْ لِلْمَوْتِ ذِكْرًا، وَأَحْسَنُهُمْ لِمَا بَعْدَهُ اسْتِعْدَادًا، أُولَئِكَ الْأَكْيَاسُ)(رواه ابن ماجه وغيره)، والمحاسبة هنا أيضًا عامة.

ومنها: ما روى عن عمر بن الخطاب(رضي الله عنه) أنه قال: (حَاسِبُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُحَاسَبُوا، وَتَزَيَّنُوا لِلْعَرْضِ الأَكْبَرِ، وَإِنَّمَا يَخِفُّ الحِسَابُ يَوْمَ القِيَامَةِ عَلَى مَنْ حَاسَبَ نَفْسَهُ فِي الدُّنْيَا)(واه أبو نعيم في الحلية)، وكتب (رضي الله عنه) إلى بعض عماله، فكان في أخر كتابه: (أَنْ حَاسِبْ نَفْسَكَ فِي الرَّخَاءِ قَبْلَ حِسَابِ الشِّدَّةِ، فَإِنَّهُ مَنْ حَاسَبَ نَفْسَهُ فِي الرَّخَاءِ قَبْلَ حِسَابِ الشِّدَّةِ؛ عَادَ مَرْجِعُهُ إِلَى الرِّضَا وَالْغِبْطَةِ، وَمَنْ أَلْهَتْهُ حَيَاتُهُ وَشُغْلُهُ بِهَوَاهُ عَادَ مَرْجِعُهُ إِلَى النَّدَامَةِ وَالْحَسْرَةِ، فَتَذَكَّرْ مَا تُوعَظُ بِهِ لِكَيْ تَنْتَهِيَ عَمَّا يُنْتَهَى عَنْهُ)(شعب الإيمان)، والمحاسبة هنا أيضًا عامة.

===

ومنها: ما روى عن ميمون بن مهران ت (116هـ،117هـ) أنه قال: (لَا يَكُونُ العَبْدُ تَقِيًّا حَتَّى يُحَاسِبَ نَفْسَهُ كَمَا يُحَاسِبُ شَرِيكَهُ مِنْ أَيْنَ مَطْعَمُهُ، وَمَلْبَسُهُ)(رواه الترمذي)، والمحاسبة هنا قبل الفعل.

محاسبة النفس))

1ـ عباد الله وأحباب رسوله الكريم: إن الوقوفُ مع النفس ومحاسبتُها لهو هدى من هدى النبوة، فقد فعله نبينا (صلى الله عليه وسلم)، ورغبنا فيه، وحثنا عليه، فعن أبي سروعة عقبة بن الحارث (رضي الله عنه) قال: (صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم) العَصْرَ، فَلَمَّا سَلَّمَ قَامَ سَرِيعًا دَخَلَ عَلَى بَعْضِ نِسَائِهِ، ثُمَّ خَرَجَ وَرَأَى مَا فِي وُجُوهِ القَوْمِ مِنْ تَعَجُّبِهِمْ لِسُرْعَتِهِ، فَقَالَ: (ذَكَرْتُ وَأَنَا فِي الصَّلاَةِ تِبْرًا عِنْدَنَا، فَكَرِهْتُ أَنْ يُمْسِيَ ـ أَوْ يَبِيتَ عِنْدَنَا ـ فَأَمَرْتُ بِقِسْمَتِهِ)(رواه البخاري).

======

2ـ والوقوف مع النفس ومحاسبتها أيضًا من هدى سلفنا الصالح من الصحابة والتابعين وتابعيهم (رضوان الله عليهم أجمعين)، التزموا به، وحث بعضهم بعضًا على التمسك به، فعن أنس بن مالك (رضي الله عنه) قال: سمعت عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) يوماً وخرجت معه حتى دخل حائطاً ، فسمعته وهو يقول ، وبيني وبينه جدار وهو في جوف الحائط: (عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ! بَخٍ بَخٍ، وَاللهِ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ! لَتَتَّقِيَنَّ اللهَ، أَوْ لَيُعَذِّبَنَّكَ)(الموطأ، والزهد لابن أبي داود، محاسبة النفس لابن أبي الدنيا أثر رقم:3).

======

3ـ وها هو الربيع بن خثيم ت (61هـ، وقيل: 63هـ) يحفر في بيته حفرة، وكلما رأى من نفسه إقبالُا على الدنيا، وقسوة في قلبه ينزل فيها ساعة وكأنه في قبره، ثم يصيح ويبكي وكأنه في عداد الموتى، ويقول: (رب ارجعون لعلي أعمل صالحا، رب ارجعون لعلي أعمل صالحا)، ثم يصعد من الحفرة ويقول: (يا ربيع قد أرجعت فاعمل الآن قبل أن لا ترجع)(إحياء علوم الدين).

======

4ـ وها هو الأحنف بن قيس ت (67هـ، وقيل: 72هـ)، كان عامة صلاته الدعاء وكان يجيء بالمصباح فيضع أصبعه فيه ثم يقول: (حِسِّ)(كلمة تقال عند الألم المفاجئ). ثم يقول: (يَا حُنَيْفُ، مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا صَنَعْتَ يَوْمَ كَذَا؟ مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا صَنَعْتَ يَوْمَ كَذَا؟)( محاسبة النفس أثر رقم:13).

======

5ـ ويقول إبراهيم التيمي ت (110هـ): (مَثَّلْتُ نَفْسِي فِي الْجَنَّةِ، آكُلُ ثِمَارَهَا، وَأَشْرَبُ مِنْ أَنْهَارِهَا، وَأُعَانِقُ أَبْكَارَهَا، ثُمَّ مَثَّلْتُ نَفْسِي فِي النَّارِ، آكُلُ مِنْ زَقُّومِهَا، وَأَشْرَبُ مِنْ صَدِيدِهَا، وَأُعَالِجُ سَلَاسِلَهَا وَأَغْلَالَهَا؛ فَقُلْتُ لِنَفْسِي: أَيْ نَفْسِي، أَيُّ شَيْءٍ تُرِيدِينَ؟، قَالَتْ: أُرِيدُ أَنْ أُرَدَّ إِلَى الدُّنْيَا؛ فَأَعْمَلَ صَالِحًا قَالَ: قُلْتُ: فَأَنْتِ فِي الْأُمْنِيَةِ فَاعْمَلِي)(محاسبة النفس أثر رقم:10).

======

6ـ وعن أبي إسحاق الحميسي وقيل: الخميسي؛ قال: دخلت على يزيد الرقاشي توفي قبل (120هـ) وقت الظهيرة في بيته وهو يتمرغ على الرمل مثل الجرذة (الفأرة)، وهو يقول: (وَيْحَكَ يَا يَزِيدُ! مَنْ يَصُومُ عَنْكَ؟! من يصلي عنك؟! ومن يَتَرَضَّى لَكَ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِكَ؟!). ثم التفت إلي، فقال: (يَا مَعْشَرَ النَّاسِ! أَلا تَبْكُونَ وَتَنُوحُونَ عَلَى أَنْفُسِكُمْ بَاقِي حَيَاتِكُمْ؟! مَنِ الْمَوْتُ مَوْعِدُهُ، وَالْقَبْرُ بَيْتُهُ، وَالثَّرَى فِرَاشُهُ، وَالدُّودُ أَنِيسُهُ، وَهُوَ مَعَ هَذَا يَنْتَظِرُ الْفَزَعَ الأَكْبَرَ، ثُمَّ لا يَعْرِفُ مُنْقَلَبَهُ إِلَى الْجَنَّةِ أَوْ إِلَى النَّارِ، ثُمَّ يَبْكِي حَتَّى تَسْقُطَ أَشْفَارُ عَيْنَيْهِ)(المجالسة وجواهر العلم لأبي بكر الدينوري).

======

7ـ وكان توبة بن الصمة بالرقة (العراق) وكان محاسبًا لنفسه فحسب فإذا هو ابن ستين سنة، فحسب أيامها فإذا هي أحدُ وعشرون ألف يوم وخمسمائة يوم (21500) فصرخ وقال: (يَا وَيْلَتِي أَلْقَ الْمَلِيكَ بِأَحَدٍ وَعِشْرِينَ أَلْفَ ذَنْبٍ كَيْفَ وَفِي كُلِّ يَوْمٍ عَشْرَةُ آلَافِ ذَنْبٍ) ثم خر مغشيا عليه فإذا هو ميت، فسمعوا قائلا يقول: يا لك من ركضة إلى الفردوس الأعلى. (حفظ العمر لابن الجوزي، صفة الصفوة، إحياء علوم الدين، محاسبة النفس لابن أبي الدنيا أثر رقم:76، الزهد والرقائق للخطيب البغدادي).

عباد الله أقول قولي هذا، وأستغفر الله العليّ العظيم لي ولكم، فادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة فالتائب من الذنب كمن لا ذنب له.

محاسبة النفس
محاسبة النفس

كتبها الشيخ الدكتور/ مسعد أحمد سعد الشايب

 

السابق
جامعة القاهرة
التالي
الحفر على الخشب..إبداع سوري وأصالة متوارثة

اترك تعليقاً