كتب الدكتور الشيخ سعد الشايب
((الوقاية خيرٌ من العلاج))
(الأخذ بأسباب السلامة والمعافاة في زمن الكورونا)
الحمد الله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء، وسيد المرسلين سيدنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وبعد:
((المعافاة من الأمراض نعمة كبرى))
فقد عدّت الشريعة الإسلامية المعافاة من الأمراض من أعظم النعم التي أنعم الله بها على عباده، فقال (صلى الله عليه وسلم): (مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ، مُعَافًا فِي جَسَدِهِ، عِنْدَهُ طَعَامُ يَوْمٍ فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا بِحَذَافِيرِها)(الأحاد والمثاني).
فتعالوا بنا لنرى: (كيف أن الوقاية خيرٌ من العلاج، وكيف حثتنا الشريعة الإسلامية على الأخذ بأسباب السلامة والحفظ والوقاية من الأمراض)، كالتالي:
((من أسباب الوقاية والحفظ من الأوبئة والأمراض))
1. الدعاء بالحفظ والوقاية من الأمراض والبلايا، والالتجاء إلى الله والتضرع إليه، وهذا مظهرٌ روحيٌ إيمانيٌ ينبئ عن الإيمان الصادق والتوكل الحقيقي والاعتماد الكامل على الله، فالله (عزّ وجلّ) هو الخالق للأمراض والبلايا، وهو منزلها ومصيب بها من يشاء من عباده وهو الذي يرفعها ويكشفها. وقد كان من دعائه (صلى الله عليه وسلم): (اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ البَرَصِ، وَالْجُنُونِ، وَالْجُذَامِ، وَمِنْ سَيِّئِ الْأَسْقَامِ)(رواه أبو داود)، وكان (صلى الله عليه وسلم) يدعو كل غداة (صباح) ويقول: (اللَّهُمَّ عَافِنِي فِي بَدَنِي، اللَّهُمَّ عَافِنِي فِي سَمْعِي، اللَّهُمَّ عَافِنِي فِي بَصَرِي، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ) يُعِيدُهَا ثَلَاثًا حِينَ يُمْسِي، وَحِينَ يُصْبِحُ ثَلَاثًا. (رواه أبو داود)، وقال أيضًا: (لَا يُغْنِي حَذَرٌ مِنْ قَدَرٍ، وَالدُّعَاءُ يَنْفَعُ مِمَّا نَزَلَ وَمِمَّا لَمْ يَنْزِلْ، وَإِنَّ الدُّعَاءَ وَالْبَلَاءَ لَيَعْتَلِجَانِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ)(الحاكم في المستدرك).
2. لزوم تقوى الله (عزّ وجلّ) في السرّ والعلن، وهذا مظهرٌ روحيٌ إيمانيٌ أيضًا، والتقوى معناها: أن يصون الإنسان نفسه عن المعاصي والآثام والذنوب، ويحذر من الوقوع فيها، ويجعل بينه وبينها حاجزًا، وهو خوفه منه (عزّ وجلّ)، ويحمي نفسه من غضب الله وعقابه وسخطه، ويجعل له منه ساترًا ألا وهو التقرب له سبحانه وتعالى بالعبادات والطاعات، فعن ابن عباس (رضي الله عنهما)، قال: كنت خلف رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يوما، فقال: (يَا غُلَامُ إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ، احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ، إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللَّهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ، وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ، رُفِعَتِ الأَقْلَامُ وَجَفَّتْ الصُّحُفُ)(رواه الترمذي).
3. الحضُّ على التغذية الصحية السليمة بالطيبات دون الخبائث، وبدون إسراف وإفراط في ذلك، فالجسد بدون طعام وشراب صحي يهلك ويفسد ويصبح عرضةً للأمراض والبلايا، ولا يستطيع التعبد لله، ولا ينافي ذلك ما أمر الله به من صيامٍ لشهر رمضان، أو ما ندبنا إليه المصطفى من صيام التطوع؛ لأن ذلك أيامًا معدودة ومحدودة وبساعات معلومة، قال تعالى: {يَابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ}[الأعراف:31]، وقال (صلى الله عليه وسلم): (كُلُوا، وَتَصَدَّقُوا، وَالْبَسُوا فِي غَيْرِ إِسْرَافٍ، وَلَا مَخِيلَةٍ)(رواه النسائي)، وقال أيضًا: (مَا مَلَأَ آدَمِيٌّ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنٍ. بِحَسْبِ ابْنِ آدَمَ أُكُلَاتٌ يُقِمْنَ صُلْبَهُ، فَإِنْ كَانَ لَا مَحَالَةَ فَثُلُثٌ لِطَعَامِهِ وَثُلُثٌ لِشَرَابِهِ وَثُلُثٌ لِنَفَسِهِ)(رواه الترمذي).
وحرم القرآن الكريم التغذي بالمحرمات والخبائث لما لها من أضرار على الصحة العامة، ولما تسببه من بلايا وأمراض، فقال تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ}[المائدة:3].
وعن ابن عمر (رضي الله عنهما): (نَهَى رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) عَنْ أَكْلِ الْجَلَّالَةِ وَأَلْبَانِهَا)(رواه أبو داود)، والجلالة: هي الحيوان أو الطائر الذي يتغذى على القاذورات صغيرًا كان أم كبيرًا، وعن ابن عباس (رضي الله عنهما): (نَهَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ، وَعَنْ كُلِّ ذِي مِخْلَبٍ مِنَ الطَّيْرِ)(رواه مسلم)، لأن هذه الحيوانات وهذه الطيور لا تتغذي إلا على النجاسات والقاذورات، وأكلها يضر بصحة الإنسان.
4. الحضُّ على تغطية أواني الطعام والشراب مع ذكر الله (عزّ وجلّ) عليها؛ لما قد يصيبها من الأتربة والحشرات الطائرة والزاحفة، والميكروبات والفيروسات التي لا نراها بأعيننا، أو يضع الجنُّ فيه شيئًا من الأذى، قال (صلى الله عليه وسلم): (غَطُّوا الْإِنَاءَ، وَأَوْكُوا السِّقَاءَ، وَأَغْلِقُوا الْبَابَ، وَأَطْفِئُوا السِّرَاجَ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَحُلُّ سِقَاءً، وَلَا يَفْتَحُ بَابًا، وَلَا يَكْشِفُ إِنَاءً، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ أَحَدُكُمْ إِلَّا أَنْ يَعْرُضَ عَلَى إِنَائِهِ عُودًا، وَيَذْكُرَ اسْمَ اللهِ، فَلْيَفْعَلْ، فَإِنَّ الْفُوَيْسِقَةَ تُضْرِمُ عَلَى أَهْلِ الْبَيْتِ بَيْتَهُمْ)(رواه مسلم).
5. العناية العامة والدائمة بنظافة الإنسان والبيئة العامة من حوله، فالنظافة تحمي الجسد من الأمراض والجراثيم والميكروبات، وقد ربطت الشريعة الإسلامية أمور النظافة ببعض الطاعات والعبادات التي لا تنقطع أبدًا، فالوضوء وما فيه من نظافة الوجه والذراعين والعينين والفم والأنف والأذنين والشعر، وغسل الرجلين للصلوات الخمس ولقراءة القرآن، والغسل لجميع الجسد للجمعة والعيدين والاجتماعات، وعقب الجماع، ونزول المني، وانقطاع دم الحيض والنفاس، وأمرتنا بنظافة الشعر وإكرامه، ونظافة الفم والأسنان، وغسل اليدين، وتقليم الأظافر وقصّ الزائد من الأشعار، كما أمرتنا بنظافة الثياب، ونظافة الفراش عند النوم، ونظافة الأفنية والبيوت، ونظافة المساجد، ونظافة الطرقات، كما اهتمت بنظافة الماء والهواء، وبنظافة الأواني والغذاء كما تقدم، وكل ذلك مفصلٌ في سنة النبي (صلى الله عليه وسلم) وبعضه مذكورٌ في القرآن الكريم كالغسل والوضوء، يقول النبي (صلى الله عليه وسلم): (حَقٌّ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ، أَنْ يَغْتَسِلَ فِي كُلِّ سَبْعَةِ أَيَّامٍ يَوْمًا يَغْسِلُ فِيهِ رَأْسَهُ وَجَسَدَهُ)(متفق عليه)، وقال أيضًا: (اتَّقُوا اللَّعَّانَيْنِ). قالوا: وما اللعانان يا رسول الله؟. قال: (الَّذِي يَتَخَلَّى (يقضي حاجته) فِي طَرِيقِ النَّاسِ، أَوْ فِي ظِلِّهِمْ)(رواه مسلم).
((الوقاية خيرٌ من العلاج))
6. اجتناب أسباب المرض والبلاء، وتجنب العدوى والتلوث وهو ما يعرف (بالحجر الصحي)، فإذا حل الوباء والبلاء بأرض فلا يخرج أحد منها ولا يدخل أحدٌ إليها، وهذا ما تطبقه جميع دول العالم في أزمة الكورونا اليوم، يقول النبي (صلى الله عليه وسلم): (إِذَا سَمِعْتُمْ بِالطَّاعُونِ بِأَرْضٍ فَلاَ تَدْخُلُوهَا، وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلاَ تَخْرُجُوا مِنْهَا)(متفق عليه)، وقال أيضًا: (لاَ عَدْوَى وَلاَ طِيَرَةَ، وَلاَ هَامَةَ وَلاَ صَفَرَ، وَفِرَّ مِنَ المَجْذُومِ كَمَا تَفِرُّ مِنَ الأَسَدِ)(رواه البخاري)، وكان عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) عازمًا على الخروج للشام فلم علم بوقوع الوباء فيها (طاعون عمواس) وكان ذلك في العام (17ه) عاد من الطريق بعدما خرج إليها، فقال له أبو عبيدة بن الجراج: (أَفِرَارًا مِنْ قَدَرِ اللَّهِ؟). فقال عمر: (نَعَمْ نَفِرُّ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ إِلَى قَدَرِ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ لَكَ إِبِلٌ هَبَطَتْ وَادِيًا لَهُ عُدْوَتَانِ، إِحْدَاهُمَا خَصِبَةٌ، وَالأُخْرَى جَدْبَةٌ، أَلَيْسَ إِنْ رَعَيْتَ الخَصْبَةَ رَعَيْتَهَا بِقَدَرِ اللَّهِ، وَإِنْ رَعَيْتَ الجَدْبَةَ رَعَيْتَهَا بِقَدَرِ اللَّهِ؟…)(متفق عليه).
7. طاعة أولي الأمر في الاجراءات الاحترازية عند نزول الوباء والبلاء، كالأمر بالتباعد والتفرق وعدم الازدحام، وكالأمر بارتداء الكمامات، والمداومة على غسل اليدين بالماء والصابون، وتقوية المناعة، وعدم الملامسة للعين والأنف والفم باليد…الخ.
والتباعد والتفرق وعدم الازدحام عند نزول الوباء من هدي صحابة رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، ففي طاعون عمواس بعد موت أبي عبيدة بن الجراح ومعاذ بن جبل (رضي الله عنهما) وقف عمرو بن العاص (رضي الله عنه) خطيبًا وقال: (أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ هَذَا الْوَجَعَ إِذَا وَقَعَ فَإِنَّمَا يَشْتَعِلُ اشْتِعَالَ النَّارِ، فَتَجَبَّلُوا مِنْهُ (أي: ادخلوا منه) فِي الْجِبَالِ… وَايْمُ اللهِ لَا نُقِيمُ عَلَيْهِ)، ثم خرج وخرج الناس فتفرقوا عنه ودفعه الله عنهم، فبلغ رأي عمرو عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) فلم يكرهه. (رواه أحمد).
فعلينا طاعة أولي الأمر فيما يرونه للصالح العام، فهم مسئولون عن ذلك أمام الله، قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا}[النساء:59].
وعلينا الامتثال لكلام أهل الذكر والشأن في ذلك وهم الأطباء والعلماء؛ لقول الله (عزّ وجلّ): {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}[النحل:43، الأنبياء:7]، فدرهم وقاية خيرٌ من قنطار علاج.
فاللهمّ ارفع عنا الوباء والبلاء والغلاء، وأمدنا بالدواء والغذاء والكساء، اللهم اصرف عنّا السوء بما شئت، وكيف شئت إنك على ما تشاء قدير، وبالإجابة جدير، اللهم ارفع مقتك وغضبك عنّت ولا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منّا، اللهمّ آمين، اللهمّ آمين.
والله المستعان وعليه التكلان