مكانة النبي (صلى الله عليه وسلم) من خلال معجزة الإسراء والمعراج
الحمد الله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء، وسيد المرسلين سيدنا
محمد رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وبعد:
فإن الإسراء والمعراج معجزة المعجزات لما داخلها من الأمور العجيبة والغريبة الخارقة للعادة، إنها معجزة يصعب استيعابها إذا قيست بمعايير البشر، وقدراتهم الذهنية والبدنية، فقد شق فيها صدر النبي (صلى الله عليه وسلم)، وفيها صلى النبي (صلى الله عليه وسلم) بالأنبياء والمرسلين، والتقى ببعضهم في السموات العلا، ورأى (صلى الله عليه وسلم) الجنة وبعض ما فيها، ورأى النار وبعض ساكنيها…الخ، فهي معجزة المعجزات، ومن أعظم ما نستفيده من معجزة الإسراء والمعراج: بيانُ مكانة النبي (صلى الله عليه وسلم) عند ربه، كالتالي:
1. جاءت معجزة الإسراء والمعراج تصديقًا للنبي (صلى الله عليه وسلم) في دعواه الرسالة، وردًا على مًنْ كذبوه، جاءت تثبيتًا وتسلية لقلبه، وتسرية لحزنه، بعد فقده لعمه أبي طالب الدرع الخارجي الحامي له من سفاهات واعتداءات المشركين، وبعد فقده لزوجه الحنون السيدة خديجة (رضي الله عنها) الدرع الداخلي التي واسته بنفسها ومالها ـ في عام واحد سمي بعام الحزن، وبعد أن أصابه (صلى الله عليه وسلم) ما أصابه من قريش ومن أهل الطائف الذين أغلظوا له في القول وأغروا به العبيد والسفهاء، وكأن الله (عزّ وجلّ) يقول للنبي (صلى الله عليه وسلم): (يا محمد إن فاتتك مؤانسة الزوج فأنت مؤانس بالملأ الأعلى، وإن فاتتك حماية العمِّ فأنت محاطٌ بحماية الربّ، وإن جفاك أهل الأرض وأساءوا استقبالك فإن أهل السماء يستقبلونك ويرحبون بك، وإن كُذبت في الأرض فأنت مصدقٌ في السماء).
2. الإسراء والمعراج دعوة ربانية لأشرف وأعظم الخلق والبرية؛ ليريه ربه من آياته العطرة البهية، قال تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}[الإسراء:1]، جاءت الدعوة على لسان أمين الوحي جبريل وأخيه ميكائيل (عليهما السلام)، ولا عجب في ذلك فالدعوة موجهة لأشرف البشر وأكرمهم على الله، فلابد أن يحملها إلى سيد الخلق أعظم الملائكة، فالإسراء والمعراج دعوة من عظيم، حملها عظيم، ومرسلة وموجهة إلى عظيم.
3. التهيئة والإعداد للجسد البشري للنبي (صلى الله عليه وسلم)؛ حتى يتحمل اختراق حجب الزمان والمكان، وحتى يتهيأ لمناجاة ربه، فكان شق صدره (صلى الله عليه وسلم) للمرة الرابعة ليلة الإسراء والمعراج، قال تعالى ممتنًا على النبي (صلى الله عليه وسلم): {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ}[الشرح:1]، وقال (صلى الله عليه وسلم): (فُرِجَ سَقْفُ بَيْتِي وَأَنَا بِمَكَّةَ، فَنَزَلَ جِبْرِيلُ فَفَرَجَ صَدْرِي، ثُمَّ غَسَلَهُ بِمَاءِ زَمْزَمَ، ثُمَّ جَاءَ بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ، مُمْتَلِئٍ حِكْمَةً وَإِيمَانًا، فَأَفْرَغَهَا فِي صَدْرِي، ثُمَّ أَطْبَقَهُ، ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِي فَعَرَجَ بِي إِلَى السَّمَاءِ…) (متفق عليه).
4. البراق وخلقته العجيبة، فهو دابة أبيضٌ طويلُ فوق الحمار، ودون البغل، يضع حافره عند منتهى بصره، وقد خُلق خصيصًا لسيدنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) تكريمًا له كما رجح المحققون من أهل العلم ـ ليلبي النبي (صلى الله عليه وسلم) دعوة الإسراء والمعراج في صورة الراكب، والراكب أعزُّ من الماشي؛ ولأن العادة جرت بأن الملك إذا استدعى من يحبه يبعث إليه بما يركبه، قال (صلى الله عليه وسلم): (…أُتِيتُ بِالْبُرَاقِ، وَهُوَ دَابَّةٌ أَبْيَضُ طَوِيلٌ فَوْقَ الْحِمَارِ، وَدُونَ الْبَغْلِ، يَضَعُ حَافِرَهُ عِنْدَ مُنْتَهَى طَرْفِهِ، فَرَكِبْتُهُ حَتَّى أَتَيْتُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، فَرَبَطْتُهُ بِالْحَلْقَةِ الَّتِي يَرْبِطُ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ، ثُمَّ دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ، فَصَلَّيْتُ فِيهِ رَكْعَتَيْنِ…)(رواه مسلم)، والبراق سُمي براقًا لشدة لمعانه وبياضه، وقيل: لشدة سرعته، وكلاهما صحيح فهو أبيضٌ، ويضع حافره عند منتهى بصره كما تقدم من قول النبي (صلى الله عليه وسلم).
5. الحفاوة والتبجيل والتعظيم من وفود الأنبياء والمرسلين لسيدنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عدة مرات، فقد كانوا جميعًا في شرف استقباله (صلى الله وسلم) ببيت المقدس، ووقفوا جميعًا مأمومين في الصلاة خلفه، قال (صلى الله عليه وسلم): (…ثُمَّ دَخَلْتُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ فَجُمِعَ لِيَ الْأَنْبِيَاءُ (عَلَيْهِمُ السَّلَامُ), فَقَدَّمَنِي جِبْرِيلُ حَتَّى أَمَمْتُهُمْ…)(رواه النسائي).
وعندما عُرج بالنبي (صلى الله عليه وسلم) إلى السموات العلا كان بعضهم في شرف استقباله (صلى الله عليه وسلم) مع أكابر ملائكة كل سماء، فقابل آدم في السماء الأولى، ويحيى وعيسى في الثانية، ويوسف في الثالثة، وإدريس في الرابعة، وهارون في الخامسة، وموسى في السادسة، وإبراهيم في السابعة مسندًا ظهره إلى البيت المعمور فرحبوا به جميعًا قائلين: مرحبًا بالنبي الصالح والأخ الصالح، ودعوا له بخير(عليهم جميعًا وعلى نبينا الصلاة والسلام).
6. مطالعة الحبيب (صلى الله عليه وسلم) لبعضٍ من ملكوت الله في أرضه وسماواته، تلك المطالعة التي لم يحظ بها نبيٌ مرسل، ولا ملك مقرب، فالإسراء والمعراج جاءا تنميةً لمعارف النبي (صلى الله عليه وسلم)، تنمية ربانية بعيدة عن التدخل البشري، قال تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}[الإسراء:1]، والرؤية هنا علمية وبصرية، ففي تلك الرحلة المباركة أطلع الله (عزّ وجلّ) نبيه على مشاهد شتى.
فقد رأى النبي (صلى الله عليه وسلم) جبريل (عليه السلام) على خلقته التي خلقه الله (عزّ وجلّ) عليها وله ستمائة جناح للمرة الثانية، بالإضافة إلى رؤيته بعض الأنبياء في السموات السبع كما تقدم، ورأى البيت المعمور ويدخله كلَّ يومٍ سبعون ألف ملك من الملائكة، ورأى سدرة المنتهى وإذا ثمرها كالقلال، وورقها كآذان الفيلة، وقد غشيها (غطاها) من الملائكة ما غشيها، كأنهم الفراش أو الجراد في صفاء الذهب ولمعانه، فأصبحت سدرة المنتهى شعلة من نور تردّ النظر، فلا يستطيع مخلوقٌ أن يصفها من حسنها وجمالها، ورأى النيل والفرات وسيحان وجيحان أربعة أنهار تخرج من الجنة، ثم أدخل النبي (صلى الله عليه وسلم) الجنة فرأى ما فيها من قباب اللؤلؤ، ورأى ترابها المسك، ورأى الحور العين، وسلّم عليهن، وكلمهنّ، قال تعالى: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى*عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى*عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى*إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى*مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى*لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى}[النجم:13ـ18].
كما أن المولى تبارك وتعالى أطلع النبي (صلى الله عليه وسلم) على بعض الحقائق الغيبية فقد ارتقى (صلى الله عليه وسلم) بعد سدرة المنتهى إلى مستوى (مكان) يسمع فيه صريف الأقلام (صوت ما تكتبه الملائكة من أقضية الله ووحيه، وما ينسخونه من اللوح المحفوظ)، فقد أطلع المولى (سبحانه وتعالى) النبي (صلى الله عليه وسلم) على أسرار كونية تنبئ عن قدرته، وتؤكد على معيته وعنايته به (صلى الله عليه وسلم).
7. المناجاة لرب العزة تبارك وتعالى، وهدية القرب للقرب (الصلوات الخمس)، فبعد أن ارتقى (صلى الله عليه وسلم) إلى مستوى يسمع فيه صريف الأقلام، إذا بالنور يغشاه من كل مكان، فقال (صلى الله عليه وسلم): (التحيات لله المباركات الصلوات الطيبات)، فسمع صوتًا يقول: (السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته)، فقال (صلى الله عليه وسلم): (السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين)، ففرض سبحانه وتعالى على الحبيب وعلى الأمة الإسلامية خمسين صلاة في اليوم والليلة، فظل النبي (صلى الله عليه وسلم) يتردد بين موسى (عليه السلام) والمكان الذي ناجى فيه رب العزة، وفرضت فيه الصلاة، حتى ناداه ربّ العزة قائلًا: (…يَا مُحَمَّدُ، إِنَّهُنَّ خَمْسُ صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، لِكُلِّ صَلَاةٍ عَشْرٌ، فَذَلِكَ خَمْسُونَ صَلَاةً، وَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةً، فَإِنْ عَمِلَهَا كُتِبَتْ لَهُ عَشْرًا، وَمَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا لَمْ تُكْتَبْ شَيْئًا، فَإِنْ عَمِلَهَا كُتِبَتْ سَيِّئَةً وَاحِدَةً…)(رواه مسلم).
فإذا كان النبي (صلى الله عليه وسلم) عرج بروحه وجسده؛ فها هي الصلوات الخمس بسننها معراجٌ روحي للمسلم كل يوم إلى رب العزة تبارك وتعالى.
8. ثم ما كان من رفع بيت المقدس للنبي (صلى الله عليه وسلم)، ليصفه وينعته للجموع التي جمعها أبو جهل، ففي صبيحة الإسراء والمعراج مرّ أبو جهل بالنبي (صلى الله عليه وسلم)، وهو حزين ساكت، فقال: هل كان من شيء؟. فقال (صلى الله عليه وسلم): (إِنِّي أُسْرِيَ بِي اللَّيْلَةَ…إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ). فقال (عليه اللعنة): ثم أصبحت بين أظهرنا؟. فقال: (نَعَمْ). فقال: فإن دعوت قومك أتحدثهم بذلك؟. قال: (نَعَمْ). فقال: يا معشر بني كعب بن لؤي هلم (أقبلوا)،فانفضت إليه المجالس حتى جاؤوا إليهما، فقال: حدث قومك بما حدثتني فحدثهم النبي (صلى الله عليه وسلم)، فكانوا بين مصفق وبين واضع يده على رأسه متعجبًا، وقالوا وتستطيع أن تنعت لنا المسجد، وكان منهم من رأه، فقال (صلى الله عليه وسلم): (فَذَهَبْتُ أَنْعَتُ لَهُمْ, فَمَا زِلْتُ أَنْعَتُ لَهُمْ وَأَنْعَتُ حَتَّى الْتَبَسَ عَلَيَّ بَعْضُ النَّعْتِ فَجِيءَ بِالْمَسْجِدِ وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَيْهِ حَتَّى وُضِعَ دُونَ دَارِ عُقَيْلٍ أَوْ دَارِ عِقَالٍ, فَنَعَتُّهُ وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَيْهِ, فَقَالَ الْقَوْمُ: أَمَّا النَّعْتُ فَوَ اللَّهِ قَدْ أَصَابَ) (رواه أحمد).