التدرج التشريعي لفريضة الصلاة
(في ذكرى تحويل القبلة)
الحمد لله رب العالمين، أعدّ لمَنْ أطاعه جنات النعيم، وسعرّ لمَنْ عصاه نار الجحيم، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأصلي وأسلم على خاتم الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد (صلى الله عليه وسلم)، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فمن المعلوم عند العلماء والفقهاء بالشريعة الإسلامية أن كثيرًا من العبادات والطاعات مرت بمراحل تشريعية ـ تحليلًا وتحريماً ـ ولم تفرض بصورتها المعهودة اليوم مرة واحدة، كالتدرج في تحريم شرب الخمر، والتدرج في تشريع الصيام، والتدرج في الإرث والمواريث، والتدرج في تحريم نكاح المتعة…الخ.
ومن الطاعات والعبادات التي مرت بمراحل تشريعية متعددة الصلوات الخمس المفروضة، فهي لم تكن أولا كذلك، ولا كانت تجاه بيت الله الحرام، وفي هذا المقال أحاول أن أجلي وأوضح تلك الحقيقة التشريعية، ونحن نجدد الاحتفاء والاحتفال بذكرى تحويل القبلة في الصلاة من بيت المقدس إلى الكعبة بيت الله الحرام، فأقول وبالله التوفيق:
المرحلة الأولى: ((الصلاة قبل الهجرة، وقبل الإسراء والمعراج))
كانت الصلاة قبل الهجرة وقبل معجزة الإسراء والمعراج، ركعتين صباحًا، ومثلهما مساء، قيل: إن النبي (صلى الله عليه وسلم) كان يصليهما اتباعًا لملة أبيه إبراهيم (عليه السلام). وقيل: إن النبي (صلى الله عليه وسلم) كان يصليهما استحسانًا منه (صلى الله عليه وسلم)، والأرجح: أن النبي (صلى الله عليه وسلم) كان يصليهما اتباعًا لقول الحق تبارك وتعالى: {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ}[ق:39]، وغيرها من الآيات الأربعة التي أمرت بذلك.
وقد أدركت السيدة خديجة (رضي الله عنها) تلك الصلاة مع نبينا (صلى الله عليه وسلم) كما يقول علماء السير، ومعلوم أن وفاتها كانت قبل معجزة الإسراء والمعراج.
المرحلة الثانية: ((الصلاة قبل الهجرة، وبعد الإسراء والمعراج))
وفي ليلة الإسراء والمعراج فرضت الصلاة بصورتها المعهودة وفي أوقاتها المعروفة لنا الأن، فرضت أولا خمسين صلاة، ثم خففت إلى خمسٍ في العمل، وكان النبي (صلى الله عليه وسلم) في الصلاة التي كان يصليها قبل الإسراء والمعراج، وفي الصلاة التي فرضت ليلتها، كان النبي (صلى الله عليه وسلم) يتوجه إلى بيت المقدس ويستقبله بأمر ووحيٍ من الله (عزّ وجلّ)، قال تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ}[البقرة:143].
وبالرغم من هذا الأمر الإلهي بالتوجه إلى بيت المقدس في الصلاة؛ لم يكن النبي (صلى الله عليه وسلم) يستدبر الكعبة، ولا يعطيها ظهره، وإنما كان يجعلها بينه وبين بيت المقدس (يستقبلهما معًا)، فكان يصلي بين الركنين اليمانيين (الركن اليماني، وركن الحجر الأسود)، فعن ابن عباس (رضي الله عنهما): (كَانَ رَسُولُ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) يُصَلِّي وَهُوَ بِمَكَّةَ نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَالْكَعْبَةُ بَيْنَ يَدَيْهِ…) (رواه أحمد)، أي: بينه وبين بيت المقدس.
المرحلة الثالثة: ((الصلاة بعد الهجرة، وتعذر استقبال الكعبة مع بيت المقدس))
فلما هاجر النبي (صلى الله عليه وسلم) من مكة إلى المدينة؛ كان من المستحيل أن يستقبل الكعبة في صلاته مع بيت المقدس؛ لأن المدينة النبوية المشرفة وبيت المقدس يقعان شمال مكة شمال بيت الله الحرام.
فظل النبي (صلى الله عليه وسلم) وهو في المدينة يستقبل بيت المقدس في صلاته اتباعًا للأمر والوحي الإلهي، مستدبرًا الكعبة جاعلًا إياها وراء ظهره، ظل على هذا الحال ستة عشر شهرًا أو سبعة عشر شهرًا، فعن البراء بن عازب (رضي الله عنهما): (أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ أَوَّلَ مَا قَدِمَ المَدِينَةَ نَزَلَ عَلَى أَجْدَادِهِ، أَوْ قَالَ أَخْوَالِهِ مِنَ الأَنْصَارِ، وَأَنَّهُ «صَلَّى قِبَلَ بَيْتِ المَقْدِسِ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا، أَوْ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا، وَكَانَ يُعْجِبُهُ أَنْ تَكُونَ قِبْلَتُهُ قِبَلَ البَيْتِ…) (رواه البخاري).
المرحلة الرابعة: ((التوجه في الصلاة ناحية الكعبة، وتحقيق رغبة النبي (صلى الله عليه وسلم))
كان النبي (صلى الله عليه وسلم) وهو في المدينة ـ متوجهًا في الصلاة نحو بيت المقدس ـ يتمنى ويعجبه، ويروق له أن لو حول الله وجهه في الصلاة تجاه البيت الحرام، فكان يقول: (وَدِدْتُ أَنْ يَصْرِفَ اللَّهُ وَجْهِي عَنْ قِبْلَةِ الْيَهُودِ). فيردُّ جبريل (عليه السلام) ويقول: (إِنَّمَا أَنَا عَبْدٌ فَادْعُ رَبْكَ وَاسْأَلْهُ) (زاد المعاد).
فكان (صلى الله عليه وسلم) يقلب بصره في السماء مناجيًا ربه بلسان الحال لا بلسان المقال، أن يوجهه في الصلاة تجاه الكعبة بيته الحرام، فيستجيب الحق تبارك وتعالى لرغبة نبيه، وينزل أمين الوحي جبريل (عليه السلام) بقول الله (عزّ وجلّ): {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ}[البقرة:144]، وعن البراء بن عازب (رضي الله عنهما) قال: (صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا، حَتَّى نَزَلَتِ الْآيَةُ الَّتِي فِي الْبَقَرَةِ {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ}[البقرة:144]) (رواه مسلم)، وهكذا استقر تشريع الصلاة عددًا، ووقتًا، ووجهة بعد العديد من المراحل التشريعية.
والله أعلى وأعلم وهو المستعان وعليه التكلان