عام

بانتظار ساعة النوم ..تصبحون على وطن

بانتظار ساعة النوم ..تصبحون على وطن

بانتظار ساعة النوم ..تصبحون على وطن

بقلم : أدهم الطويل صحفي وإعلامي .. دمشق

انها الساعة الثامنة من مساء التقنين ، التاسعة ليلا في مدينة لاتبادلك أية مشاعر، مدينة مصنوعة بكثير من الاسمنت البارد، لاشيء اخضر فيها حتى إشارات المرور .

وجوه الناس المسرعة حولي، تتنوع ملامحها بين الكئيبة جدا والمتوسطة ، إلى الغائمة دون أي مطر .

اسير بطريقة الزك زاك بين أسراب المارين نحو العام الجديد .

المارون على الطرقات كثر.. لعل بعضهم مقطوع من البنزين فاضطروا للسير على الاقدام ، ولربما بعضهم الآخر مقطوع من شجرة.

اسير وازداد توغلا في مدينة الاسمنت بين بشر ملونين بشتى الالوان ، اتوخى عدم الغوص بمزيد من وحل هذه المدينة وطرقاتها المحفورة دون سبب معروف .

لا كهرباء حكومية في المدينة ، لكن واجهات المحال المضاءة تنشر بعضا من الضوء على الاقدام المزدحمة المتوحلة فوق الأرصفة.

هذا محل نشر عدة مصابيح كبيرة،

ضوءها المشع جذب الكثير من الوجوه ، الموسيقا الصاخبة التي تلعلع خلف اغنية رخيصة تعني أن المحل افتتح أبوابه اليوم ، بالصلاة على النبي.

رغم أن المشهد برمته لايليق بها، اتذكر فيروز وانا اراقب الناس وهي تتزاحم تحت الضوء المشع أمام واجهة المحل، فيروز وهي تغني ( يا قلبي المتل فراشة حول القناديل ..لا بتعرف وهج النار ولابتكفي المشوار) .. احشر جسدي بين الفراشات ،بل الأجساد المكتظة لأصل إلى الواجهة الزجاجية الأنيقة.

يا الهي ،انها واجهة محل للاحذية، واجهة رُتٍبت خلفها عشرات الأزواج من الأحذية الفاخرة..ومن قال إنها فاخرة ، اطرح السؤال على نفسي لاخفف من حدة المشهد لتلك “الكائنات” الانيقة، التي بدا لي انها مصفوفة خلف زجاج واق من الرصاص

تعمقت في موديلاتها ونماذجها

“فاندهشت” وانا اشعر كأن بعضها من النوع المرح وآخر يضحك لي وثالث يبدي الكثير من الوقار والجدية ، ورابع من النوع العادي الذي لايبادلك أية مشاعر.. هذا النوع الرابع في اسفل الصفوف أفراده تحمل لوائح اسعار تتألف من خمسة ارقام ، أما الباقي في الصفوف العليا فلوائح أسعارها من ستة ارقام.. تبدأ بمئة الف وبعضها يصل نصف مليون ليرة، وفي اعلى الصفوف نموذجين ضخمين أسعارها ثلاثة ارباع المليون.

وراء الزجاج المضاد للرصاص ووراء الأحذية المرموقة ،وزعت عدة مقاعد جلدية ،منعتني أجساد البائعات المحشورة بتنانير ضيقة وقصيرة من تمييز وجوه الجالسين عليها ، لكن البطات الناعمة والافخاذ المكشوفة تدل أن معظم الزبائن هن من النساء،،، أناقة المكان، وكذلك الأحذية، ثم منظر الافخاذ المثيرة التي تقيس أحذية لاقدامها هي اسباب واضحة لهذا الازدحام الخارجي غير المبرر، اذ لاشاورما مجانية توزع ولا اية مأكولات ..هكذا استنتجت..

استنتجت رغما عني وانسحبت من المشهد وانا اردد كالمجنون : ثلاثة ارباع المليون !!! من يملك هذا المبلغ ليهدره على حذاء .. كيف يشتري عاقل حذاء له أو لزوجته ،،يا سيدي وحتى لتلك التي يصاحبها بنصف مليون.. من هذا الذي يمارس هذه المحرمات في هذا الزمن ..محرمات ؟ ! الوصف بدا لي اكبر من المشهد لكنني لم اجد عنوانا بديلا ..وقد انهيت هذا المونولوج العقيم قبل أن انعطف يمينا إلى شارع فرعي بعيدا نسبيا عن زحام الناس المزدحمة حول الاحذية.

سرت أقل من عشر خطوات باتجاه ضوء صغير ينبعث من الأرض.

بألسنة صغيرة حمراء شاحبة، تأكل النار وهي تشتعل بخجل كومة صغيرة من الأوراق وقطع الخشب والبلاستيك.

هناك يدُ متعبةُ تبحث بكومة قمامة جانبية، لتضيف ما تيسر منها إلى النار. ترمي شيئاً ما فوق الموقد المصنوع للتو.. فتتوهج النارُ وتتطاول ألسنتها فتضيء وجه المرأة الشابة التي تصنع النار.

مع الضوء هناك دفىء راح ينتشر ويسري في جسد المرأة المختبىء داخل ثياب رثة ، المرأة الثلاثينية التي استندت إلى جدار خلفها، وجهها المضيء راح يطفح بعلامات مكشوفة من فرح طازج..هو لمنظر النيران المتأججة أو لمنظر طفلها ذي الأربع سنوات، وهو يقفز ويصفق للنار وقد تأبط شيئا ما.. الطفلُ تابعّ يصفقُ للنار.. أو ربما لنجاح أمه في صناعة كل هذا الدفء والفرح.

عدوى الفرح طالتني وانا أراقب المشهد بدقة متناسيا بعنف مشهد الأحذية الفاخرة أو الفارهة، تمنيت لو أجد سببا يبرر لي الانضمام إليهما، تنبهت لنفسي أني متطفل فابعتدت خطوتين أو أكثر ..عندها بدأت عدوى الفرح تتلاشى واجتاحني تيار بارد وأنا أتابع الرصد ،

دققت في المكان المضاء بالنار؛ المشتعل بصخب طفل وجهه ملطخ بكل انواع السواد, ويداه تفتت قطعة من الخبز الحاف.. عدت واقتربت مجدداً من زاوية أخرى، المرأة صانعة النار لا تستند إلى جدار، إذ لا يوجد اي جدار في المكان، المكان المكشوف لكل الجهات، هي تستند إلى حاوية قمامة، قمامة لا تملىء الحاوية فحسب، بل تنتشر حولها لتصل إلى بعد خطوة أو اثنتين مما يبدو أنها لوازم الحياة اليومية لكائنين من لحم ودم.. بين اللوازم كتلة من القماش المحشي، تشبه الوسادة وفرشة ملفوفة بانتظار ساعة النوم عند جدار حاوية للقمامة ، ساعة النوم التي ربما تحين قبل أن يغلق محل الأحذية المليونية أبوابه..

تصبحون على وطن.

بانتظار ساعة النوم ..تصبحون على وطن
بانتظار ساعة النوم ..تصبحون على وطن
السابق
حديقه الازبكيه
التالي
” مهرجان النجع المغاربي”

اترك تعليقاً