وقفات مع ليلة القدر
وقفات مع ليلة القدر
بقلم/د.مسعد الشايب
وقفات مع ليلة القدر . معنى ليلة القدر، وبيان القدر الذي أضيفت إليه الليلة
أيها الأحبة الكرام: فما زلنا نعيش في رحاب شهر رمضان، وقد رغبنا النبي (صلى الله عليه وسلم) في الإقبال على شهر رمضان واغتنام طاعاته وعباداته التي تتسبب في غفران الذنوب وستر العيوب، فعن كعب بن عجرة (رضي الله عنه)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): (احْضُرُوا الْمِنْبَرَ). فحضرنا، فلما ارتقى درجة قال: (آمِينَ). فلما ارتقى الدرجة الثانية قال: (آمِينَ). فلما ارتقى الدرجة الثالثة قال: (آمِينَ). فلما فرغ (أي: من حديثه) نزل من المنبر، فقلنا له يا رسول الله لقد سمعنا اليوم منك شيئا لم نكن نسمعه قال: (إِنَّ جِبْرِيلَ (عَلَيْهِ السَّلَامِ) عَرْضَ لِي فَقَالَ: بَعُدَ (أي: من رحمة الله، من جنته) مَنْ أَدْرَكَ رَمَضَانَ فَلَمْ يُغْفَرْ لَهُ فَقُلْتُ: آمِينَ، فَلَمَّا رَقِيتُ الثَّانِيَةَ قَالَ: بَعُدَ مَنْ ذُكِرْتَ عِنْدَهُ فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْكَ فَقُلْتُ: آمِينَ، فَلَمَّا رَقِيتُ الثَّالِثَةَ قَالَ: بَعُدَ مَنْ أَدْرَكَ وَالِدَيْهِ الْكِبَرَ عِنْدَهُ أَوْ أَحَدُهُمَا، فلَمْ يُدْخِلَاهُ الْجَنَّةَ…فَقُلْتُ: آمِينَ)(شعب الإيمان).
ومن أعظم وأهم فرص المغفرة التي تقع في العشر الأواخر من شهر رمضان؛ ليلة القدر، التي قال النبي (صلى الله عليه وسلم) عنها: (…مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ)(متفق عليه)، فتعالوا بنا أحبتي الله في هذا الجمعة المباركة الأخيرة من شهر رمضان؛ لنتعرف على المعنى المراد بليلة القدر، ونبين مناقبها وفضائلها، وكيفية اغتنامها وإحيائها، وذلك ببيان العمل فيها، فأقول وبالله التوفيق:
ليلة القدر: أي: ليلة العظمة والشرف، وذلك لعظيم فضلها، وكثير مناقبها كما سنرى، أو لأن المؤمن الموحد يصير بمراعاتها وإحيائها واغتنامها ذا قدر وعظمة وشرف، فالطاعات والعبادات فيها ذات قدر.
أو لأنه نزل فيها كتاب ذو قدر (عظمة وشرف) وهو القرآن الكريم، من عند إله ذي قدر وهو الحق تبارك وتعالى، بواسطة ملك ذي قدر وهو جبريل (عليه السلام)، على قلب نبي ذي قدر وهو سيدنا محمد (صلى الله عليه وسلم)، لأمة ذات قدر وهي الأمة المحمدية، فعن ابن عباس (رضي الله عنهما): (فُصِلَ الْقُرْآنُ مِنَ الذِّكْرِ، فَوُضِعَ فِي بَيْتِ الْعِزَّةِ فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَجَعَلَ جِبْرِيلُ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) يُنْزِلُهُ عَلَى النَّبِيِّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، وَيُرَتِّلُهُ تَرْتِيلًا)(المستدرك للحاكم).
أو لأنه تتنزل في تلك الليلة المباركة رحماتٌ وبركاتٌ ونفحاتٌ ذات قدر، وتتنزل ملائكة ذوو قدر وعلى رأسهم جبريل (عليه السلام)، فالقدر الذي أضيفت له الليلة: يعني العظمة والشرف، من قولنا: لفلان قدر أي: عظمة وشرف، فليلة القدر: تعني ليلة العظمة والشرف، ويشهد لذلك قول الله (عزّ وجلّ): {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ}[الزمر:67]، أي: وما عظموا الله حق تعظيمه.
وليلة القدر: تعني أيضًا ليلة الضيق، تضيق الأرض فيها بالملائكة التي تتنزل فيها، وذلك من كثرتها، فالملائكة في ليلة القدر في الأرض أكثر من عدد الحصى. فالقدر: هو الضيق، ويشهد لذلك قول الله (عزّ وجلّ): {وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا}[الطلاق:7]، أي: ومن ضاق عليه رزقه فلينفق بقدر طاقته على مطلقته.
وليلة القدر: تعني أيضًا ليلة الحكم والتقدير، فالأشياء تقدّر فيها، يقضى فيها أمر السنة كلها من يموت، ومن يولد، ومن يتزوج، ومن يفتقر، ومن يغتني، ومن يعزّ، ومن يذل، وسائر أمور السنة، وتتنزل الملائكة بهذا التقدير كما سنمع بعد قليل، فالقدر هنا: هو الحكم والأمر والتقدير. ويشهد لذلك قول الله (عزّ وجلّ): {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ}[الدخان:4]، أي: محكم ومقدرٌ من الله (عزّ وجلّ).
* فضائل ومناقب ليلة القدر
أيها الأخوة الأحباب: لقد أنزل الحق تبارك وتعالى سورة قرآنية كاملة في مناقب تلك الليلة المباركة، فقال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ*وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ*لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرِ*تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ*سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ}[سورة: القدر]، وبالتأمل والتدبر في تلك السورة المباركة يتضح لنا مناقب وفضائل تلك الليلة المباركة، وخصوصًا بعد أن فخم وعظم المولى تبارك وتعالى أمرها، فقال تعالى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ}، وقد جاءت مناقبها في تلك السورة كالتالي:
ليلة القدر: ليلة نزول القرآن الكريم، قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ}، أي: ابتدأنا إنزال القرآن في ليلة القدر، ثم نزل بعد ذلك مفرقًا ومنجمًا بحسب الدواعي، والوقائع، والأحداث على ثلاثٍ وعشرين سنة وهذا هو رأي جمهور العلماء، ويشهد له قول الحق تبارك وتعالى: {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا}[الإسراء:106]، وقوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا* وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا}[الفرقان:33،32].
أما ابن عباس (رضي الله عنهما) حبر الأمة وترجمان القرآن فيقول: نزل القرآن جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في السماء الدنيا، إلى السفرة الكرام الكاتبين في السماء الدنيا, فنجمته السفرة على جبريل (عليه السلام)، ثم نزل به جبريل (عليه السلام) مفرقًا ومنجمًا على قلب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في ثلاث وعشرين سنة، بحسب الدواعي والوقائع والأحداث، كما تقدم من حديثه في مستدرك الإمام الحاكم، واستدل بهذه الآية: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ}[الواقعة:75].
ليلة القدر: ليلةٌ خيرٌ من ألف شهر، خيرٌ من أربعة أشهر وثلاثٍ وثمانين سنة من العبادة والطاعة، ليس فيها ليلة قدر، قال تعالى: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ}، فلو وفق المؤمن طيلة حياته لثلاثين أو أربعين ليلة قدر فقد وضع في صحيفة أعماله يوم القيامة كمًّا هائلًا من الطاعة والعبادة؛ لذلك عظم النبي (صلى الله عليه وسلم) اغتنامها، فقال: (إِنَّ هَذَا الشَّهْرَ قَدْ حَضَرَكُمْ، وَفِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، مَنْ حُرِمَهَا فَقَدْ حُرِمَ الْخَيْرَ كُلَّهُ، وَلَا يُحْرَمُ خَيْرَهَا إِلَّا مَحْرُومٌ)(رواه ابن ماجه).
ليلة القدر: ليلةٌ تتنزل فيها أشراف الملائكة وحفظتهم، وعلى رأسهم جبريل (عليه السلام)، يتنزلون بالرحمات والبركات والنفحات الربانية، وذلك لكثرة بركة تلك الليلة، فالملائكة تتنزل عند تلاوة القرآن الكريم، وتحيط بحلق الذكر، وتضع أجنحتها لطالب العلم، قال تعالى: {تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ}، كما أن الملائكة تتنزل في تلك الليلة بكل أمر وقدر قضاه الله (عزّ وجلّ) في تلك السنة إلى قابل، كما تقدم عند الكلام على معنى ليلة القدر.
ليلة القدر: ليلةٌ سالمة، لا يصاب فيها المؤمن بداء ولا سحر ولا شيء من عمل الشياطين والسحرة والكهنة، وقيل: السلام الخير والبركة، وقيل: تسلم الملائكة على مَنْ يذكر الله تعالى في تلك الليلة، ولا مانع من تحقق كل ذلك، فهي ليلة مليئة بالخير والبركة، وفي أثر ضعيف أن جبريل (عليه السلام) يتنزل في كوكبة من الملائكة ويسلم على المؤمنين، وإذا كانت تلك الليلة منحة لأهل الإيمان فكيف يصاب فيها المؤمن بأذى من أهل الشر، وصدق الله إذ يقول: {سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ}.