كتب:هدى شهاب
“الساعة الخامسة و العشرون” رواية حازت على “النوبل للأدب”
“ملحمة تاريخية” خالدة في تاريخ الأدب
تُعد الرواية جزءاً لا يتجزأ من التاريخ الإنساني فهى حافظة لتجربة الفرد و المجتمع، موثّقة لحاضرهِ وماضيه، فالرواية توثيق للتاريخ الذي لم يكتُبه المؤرخين ولم تُحط به الأفلام ولا الصور خُبرا، تحوي تفاصيلاً و قصصاً صغيرة تُشكل في مُجملها حياة أفراد عاشوا زمناً ما ربما لم نكن لنعرف شيئاً عنهم، عن أوجاعهم وآمالهم إلا من خلال الأدب، لذا يُعد الأدب مرآه لتاريخ الإنسانية..
و من تلك الروايات التي تُجسد تاريخ الإنسان، رواية “الساعة الخامسة والعشرون”، تُعتبر الرواية إنسانية بالدرجة الأولى، و مع أن الرواية تم كتابتها عام 1949 إبان الحرب العالمية الثانية، إلا أن الرواية لا تزال نابضة بالحياة كألمٍ عميق في وجدان كل من عاشوا الأحداث التاريخية الكبرى في العصر الحديث، كالثورات و الحروب الدامية، أو الانقلابات العسكرية، و حتى حركات التطهير والإبادة العرقية، إن رواية” الساعة 25″ قادرة أن تجعلك و أنت في مكانك ترى الحياة فوق خطوط النار و تتخيل ما يحدث داخل أسوار السجون و المعتقلات، تتجول من خلالها إلى المُدن المنكوبة والمُحاصرة، وتتألم للإنسانية التي أُهدرت في دولاً لا مكان فيها للإنسان أبداً، فالبشر لديهم مجرد مواطنين و أرقام في سجلّات البيروقراطية و في دفاتر السجون أو في معسكرات العمل..
كَتب تلك الرواية الخالدة التي حازت على “جائزة نوبل في الآداب” عام 1948، والتي تُرجمت إلى أكثر اللغات الحية، وطُبعت في فرنسا وحدها أكثر من 50 مرة ما بين 1949 و 1965..الكاتب الروائي الروماني ” قسطنطين فيرجيل جورجيو”، وُلد “فيرجيل” في رومانيا و عمل في وزارة الشؤون الخارجية كسكرتير في سفارة بلاده، و من ثَم تم اعتقاله عام 1944 ثُم أُطلق سراحهُ في أعقاب الحرب العالمية الثانية..
و عن نشأة “قسطنطين جورجيو”، ففد تربي في جو من العزلة والزهد، و كان لهما أثرين كبيرين في تكوين وعيهُ السياسي وحِسّهُ الجمالي و رؤيته للحياة، فهو كان يقول دائما إنه يُعد نفسه كأحد الذين لم يجدوا لهم مكانا في العالم الحديث، تماماً كاليهود والأقليات العرقية والغجر في أوروبا، وفي فترة تعليمه بدأت أولى مواهب “قسطنطين” في التفتح، فكان يكتب الشعر و ينُشر بعضه في الصحف، وفي العام 1939 توجه “فيرجيل” إلى العاصمة الرومانية “بوخارست” ليدرس الفلسفة، فتربيته اللاهوتية كانت حافزاً قوياً له لدراسة الفلسفة بشقّيها اللاهوتية الخاصة بالعصور الوسطى، والعلمانية الخاصة بالعصور الحديثة، وهي المُفارقة التي ستطبع كل أشعاره وأعماله الأدبية.
و عندما أنتهى “قسطنطين جيورجيو” من خط آخر أسطر في روايته قال عنها : “إن كل صفحة من كتابي كتبت بالدم، دمي، دم أصدقائي، دم أولئك الذين عانوا والذين ما زالوا يعانون في المعتقلات، نعم كل ما كتبه (تريان) ( أحد أبطال روايته) عن المجتمع التقني في الرواية حول تحويل الإنسان إلى آلة هو ما أفكر فيه فعلاً “.
أما الفيلسوف الفرنسي الشهير “غابريل مارسيل” قال في تقديمهُ للرواية : ” اغتبط بالتفكير في أن هذه الرواية البديعة، هذه الرواية المُخيفة، ستظهر أول ما تظهر في فرنسا وباللغة الفرنسية.. إنني لا أشك في أن ترجمات أخرى ستعقبها وإلا لكان في ذلك مدعاة للأسف”.. كما قال :”لا أظن أن من اليسر إيجاد عمل فني أكثر تعبيراً عن الوضع المريع الذي تجد الإنسانية نفسها غارقة فيه اليوم مثل رواية (الساعة الخامسة والعشرون)”..
و قال في الرواية د.عبد الله إبراهيم : “هناك روايات كثيرة يتلاشى حضورها من الذاكرة بمرور الأيام، وتصبح إستعادة أجوائها صعبة، و ربما شبه مستحيلة، و لكن قليلاً منها فقط يُدمغ في الذاكرة بختمه الأبدي، ومن ذلك القليل النادر رواية (الساعة الخامسة و العشرون)”..
كُتبت رواية “الساعة الخامسة و العشرون”، بطريقة سردية مُتقنة، و اختار الكاتب عدة شخصيات تتلاقى في مآسيهم، رغم اختلافهم ثقافياً ودينياً وعرقياً، تسرد لنا الرواية ما قد تفعله الحروب في البشرية، وأن العداء بين الحضارات و الدول لا يدفع ثمنها السياسيين و لا الحكومات، بل يدفع ثمنها أولاً و آخراً الإنسان وحده.. يدفع ثمن هويتهُ,و ديانتهُ,و جنسية بلادهُ..كما نجد أن أحداث الرواية تدور في قالب “ديستوبي” أي ( سوداوي حيث يسوده الظلم) لتتحول الحياه بالكامل إلى مأساة لا تعرف شخوصها الذين يعيشون في عالم بيروقراطي كل شيء فيه مُنظم وهندسي له غرض محدد وواضح، لا مجال فيه للفراغ أو التعاطف غير العقلاني..
و إذا تحدثنا عن أحداث الرواية، سنجدها تتناول معاناة الإنسان في معسكرات الإعتقال التي نصَبَتها دول المحور و الحلفاء أثناء الحرب العالمية الثانية ، تروي أيضا الرواية ما حدث للمجتمعات الغربية بعد الثورة الصناعية، و أنها ماعادت تأبه بالإنسان خاصة بعد أن أصبح الإنسان مجرد “مواطن” أو “ترس” في الآله الغربية الجبارة..
يقول “قسطنطين” عن ذلك :” العالم الحديث هو عبارة عن آلة هندسية جبارة ، إنك في صميم آلة جبارة.. فمهما بذلت من مجهود وتحركت وناضلت فإنك لن تخرج منها، إن الآلة صماء لا تسمع وترى بل تعمل فقط. تعمل عملاً مدهشا تبلغ فيه الكمال الذي لا يستطيع الإنسان بلوغه أبداً.. فعلى المرء أن ينتظم فيها وهو مطمئن تماما أن دوره سيحين.. إن الآلة لا تنسى كما ينسى المخلوق البشري”..
و عن تفاصيل الرواية، نجد أنها تتحدث برمزية عن قصة ذلك المواطن الروماني البسيط “أيوهان موريتز” وحلمه البسيط في أن يُسافر إلى “الولايات المتحدة الأمريكية”، ويعمل فيها ليجمع ما يكفيه لشراء قطعة أرض يبني عليها منزل ثم يتزوج من محبوبته “سوزانا” ويعيشان في سلام بقرية “فانتانا” الرومانية، كان “أيوهان” يريد أن يعمل وقاداً على ظهر الباخرة المسافرة إلى أمريكا لأنه لا يملك أجرة السفر.
و لسببٍ ما رجع “إيوهان”عن السفر و تزوج “سوزانا”، و أنجب طفلين و لكن الحظ العثر أبىَ أن يعيش “آيوهان” في سلام مع أسرته.. فكان إسمه اسماً يتسمى به اليهود، في الوقت الذي كانت دولته واقعة تحت تهديد وابتزاز النظام النازي الألماني المعادي لليهودية، فأصابته لعنة هذا الإسم الذي لم يَختره لنفسه، وكان اليهود في ذلك العصر يُصادرون إستناداً إلى انتمائهم، و لون بشرتهم كما تُصادر العربات، والأبقار، و المحاريث وسيارات النقل، بلا أي خصوصية أو هوية إنسانية فريدة وخاصة!!. و تم مُصادرة “إيوهان”، و الزج به فى”المعسكرات الرومانية”، بعد إتهام كاذب من رجل أراد فقط أن يختلي بزوجة “أيوهان” سوزانا الجميلة.. كل هذه المعاناة الكبيرة مقابل رغبة خسيسة ودنيئة من إنسان آخر هو ابن ديانته و ابن قريته!!.
و إرضاءاً للنظام النازي حليف “رومانيا”، تنقل “إيوهان” بين المعتقلات العبثية المجنونة لسنوات، إنتقل بين 38 معسكراً لمدة 13 عاماً، مليئة بالتشرد و السجن و المهانة و القمع، خارج و داخل السجون من دون أن يقترف ذنباً واحداً.ليقف إزاء ما مر به حائراً لا يفهم شيئاً، سوى أن تلك الشدائد التي مرت به حطّمت كيانه و سرقت عمره الذي لا يَملك سواه.. و خلال رحلتة البائسة رأى كيف مات قس كنيسة قريته “فانتانا”، “القس كوروغا” الذي تولى مساعدة “إيوهان” وهو في ريعان شبابهُ، وكان بمثابة الأب له، و كيف انتحر ابن القس “تريان” الشاعر الرقيق صاحب الحس الجمالي المُرهَف,بدخوله المنطقة المُحرمة من معسكر الإعتقال، وهو يعلم يقيناً أن الحراس سيقتلونه على الفور، من شدة فقدان الأمل والرغبة في الحياة..
و بعد إنتهاء محاكمة “إيوهان” كمجرم حرب و سنوات إعتقالهُ الطويلة، ظن إنه نجا أخيراً و إنه نال حريتهُ,و أنه سيعود إلى وطنه و سيلتقي بـ”سوزانا” و أولاده الذين عاشوا أيضاً حياة بائسة بسبب الحرب.. ولكنه يفقد حريتهُ مجدداً!!.. بعد أن أُطلق سراحه لمدة ١٨ ساعة فقط !!..ليجد نفسه بعدها مخيراً بين السيئ و هو “المعسكرات الأمريكية”، أو الأسوأ و هو الوقوع أسيراً لدى “المعسكرات الروسية” حيث البربرية السيبيرية.. ليختار هو و عائلته و عائلات أوروبا الغربية كلها، الحرب إلى الجانب “الولايات المتحدة”، ضد “السوفييت”.. راضين قانعين حالمين إنهم إن قُدر لهم النجاة سينالوا الحرية!!.و أخيراً نجد في الراوية أن “قُسطنطين فيرجيل” أخذنا إلى رحلة سردية مؤلمة لما عاناه الجنس البشري في ذلك الزمان.